6- التبليغ والعلاقة بين الفرد والمجتمع

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: "المسلم مَنْ سَلِم المسلمون من لسانه ويده".[1]

يفهم من هذا الحديث الشريف: أن المسلم لا يمكن أن يستخف بمال أي إنسان كان ولا بعرضه ولا بشرفه ولا بكرامته، وكذلك لا يمكنه أن يتصرف فيما يومئ إلى التعرض لحياة أي إنسان كان. فلئن كان الزوج هو وحده له الصلاحية على مس ما يُعدّ من المحارم في الدين لدى المرأة، فهل يتصور أن يعقد غيره علاقة معها؟ ثم إن تجول المرأة متبرجة مكشوفة المحارم إثم يخصها وحدها. إلاأنه لا يسوّغ تبرجها هذا نظر الأجنبي لها. ولئن كان المسلم ينظر إلى هذه المسألة بهذه الدرجة من الحساسية والدقة فهل يمكن أن يرتكب إذن ما وراء هذا النظر من الحرام الذي يعدّه الدين من الكبائر. ولاشك أن حوادث فردية تقع في كل مجتمع، ولكن المسألة هنا تتعلق بالتقصد والتمادي في الأمر.

ولقد تعرفت على نمط من الشباب لو تعلق بنظرهم حرام في أثناء تجوالهم لضرورة في السوق يتصدقون بيوميتهم كفارةً لذلك الذنب فراراً إلى باب التوبة. وفي الحقيقة لا بد أن يتحلى كل مسلم بمثل هذه الأخلاق. حيث إن المسلم مَن يطمئن إليه المسلمون ويأمنون جانبه. أجل إن المسلم لا يمكنه أن يمد يده حتى إلى لقمة واحدة لغيره. ولا يفكر بل ولا يخطر بباله أن يستفيد بغرام واحد من ملء الأرض ذهبا لغيره. ذلك لأنه إنسان الأمان والثقة. وما المجتمع الإسلامي إلا مجموع أمثال هؤلاء الأفراد. ولا يحق لأحد أن يتخوف من مثل هـذا المجتمع. والحديث الشريف المذكور أعلاه يشير بالمفهوم المخالف: أن الكافر هو من لا يسلَم الناس من لسانه ويده. نعم إن البشرية محقة في الوقت الحاضر إذا ما تخوفت وقلقت -مهما كانت- من كل إنسان يمثل الإلحاد، حيث لا يوجد في أي منهم الشعور بالأمان والاطمئنان. أليست الحوادث التاريخية شواهد حية على هذا؟ أما الإسلام فيربي منتسبيه بأخلاق فاضلة بحيث يتميزون عن الآخرين في بنيتهم الروحية وتصرفاتهم، وينبغي أن يكون هكذا. ذلك لأن المجتمع الذي يعيش فيه قد سد جميع أبواب الأخلاق السيئة بكافة أنواعها، واتخذ موقفاً تجاه جميع السيئات التي يعدّها الدين من المنكرات. وحيث إن الأمر هكذا فالأمم أو المجتمعات التي ينشؤها المسلمون يفوح منها شذا الروح والريحان فهي متميزة كليا عن المجتمعات الأخرى التي تصول فيها الرذائل. نعم إن من أولى واجبات المسلم التحلي بهذه الخصال أولا ثم نقلها إلى الآخرين.

بمعنى أن هذا الواجب لابد أن يجرى في مستوى الفرد أولا ثم في مستوى المجتمع ثم في مستوى الدولة. ومن المعلوم أن المجتمع المنوّر يتكون من أفراد منورين. ومثل هذا التشكل لا يقتصر على جذب الأفراد إليه فحسب بل يجذب أيضا التكتلات والشعوب الأخرى معا. ولعل أوضح مثال لهذه الحقيقة الكلية إسلام النجاشي:

النجاشي حاكم الحبشة، وقـد اسـتجار به ثلة من المسلمين فحماهم، وتفرس في أقوالهم وأطوارهم بمرور الزمن وفي النور الذي يشع من ناصيتهم ومن طفح الإيمان في صدورهم طريقا إلى الحقيقة، فاسلم حالاً للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وفضلا عن أن هذا ثمرة من ثمرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قصر النجاشي، فإنه نتيجة لتنفيذ ما يمكن أن يقولوه إلى النجاشي في أنفسهم أولا. أو بتعبير آخر: إنه بقدر ما أعجب النجاشي بأقوالهم فإنه أعجب بالفضائل التي تنم عنها أطوارهم وحالاتهم الروحية.

إن الرسالة التي بعث بها النجاشي إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مشحونة بأدب محض. إذ استهل رسالته: "إلى محمد رسول الله من النجاشي.." فقدم اسم الرسول على اسمه أي قَبِل عظمته فضلا عما في ثنايا الرسالة من كلمات التقدير والاحترام، وكيف ماجت في روحه فجأة أمواج الإيمان.. كل ذلك يجعل تلك الرسالة تستحق قراءتها مراراً.

فما أعظم قوله: "أشهد أنك رسول الله.. فإني لا أملك إلاّ نفسي وإن شئت أن آتيك فعلتُ. يا رسول الله، فإني أشهد أنما تقول حق".[2]

وفي يوم آخر يقول وبحسرة بالغة: "أشهد أنه رسول الله وأنّه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه!!"[3]

إن الذي دفع النجاشي إلى هذه الحالة، الحياة الإسلامية في تلك النخبة من الصحابة الكرام وما كانوا يتفوهون بها من كلمات طيبة نـزيهة. فالذين ينقلون الحادثة يروونها على الصورة الآتية:

لقد ضاقت مكة بالمسلمين. ولم يبق أحد من المسلمين يأمن على حياته وماله وعرضه وشرفه. ففي هذه الأثناء أُذن بالهجرة إلى الحبشة. وهاجر مجموعة من المسلمين إليها واستُقبلوا هناك استقبال ضيف عزيز كريم أكثر مما كان يُنتظر. ولكن مشركي مكة كانوا قد عقدوا العزم على جعل الدنيا ضيقة على المسلمين. وتشاوروا فيما بينهم وأرسلوا وفدا إلى الحبشة برئاسة الداهية السياسي عمرو بن العاص -الذي أصبح رضي الله عنه فيما بعد من كبار الصحابة- وحاولوا إثارة النجاشي على المسلمين كي يتخلى عن حمايتهم. فيكونوا قد خيبوا أمل المسلمين مرة أخرى.

أنصت النجاشي إليهم مليا. وقد استفرغوا كل ما لديهم من افتراءات في سعيهم للتأثير على مشاعر النجاشي، بيد أن النجاشي كان مثالا للمروءة، فلم يطرد من استجار به بمجرد اتهامات رخيصة تافهة. وأوضح فكره هذا للوفد القادم من قريش، وأفاد بجلاء أنه لن يحكم بشيء ما لم يستمع إليهم أيضا. وعلى ضوء هذا دُعي عدد من المسلمين إلى القصر وكان جعفر بن أبى طالب رضي الله عنه يترأسهم واختاره المسلمون ناطقا باسمهم، وهو من أشراف مكة وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم والأخ الكبير لسيدنا علي رضي الله عنه. وكان المسلمون قد اختاروه ناطقا باسمهم إذ كانوا صفا واحدا ووحدة متحدة كأنهم كيان واحد. وهذه الرابطة الوثيقة بينهم كانت ملفتة للأنظار.

كان على الداخل أن يسجد للملك تعظيماله، وكان هذا يعدّ من أصول التشريفات، إلا أن المسلمين لم يسجدواله، إذ لا يجوز للمسلم أن يسجد لغير الله جل جلاله. وقد سرّ وفد المشركين تصرف المسلمين هذا، حيث فكروا أن النجاشي سيغضب عليهم ويطردهم من ديوانه. ولكن النجاشي -كما ذكرنا- كان مثالا للفضيلة. ويا ليت الذين يقولون بالديمقراطية في أيامنا هذه يمتثلون بالديمقراطية التي مارسها وعاشها هذا الملك الحبشي قبل أربعة عشر قرنا، ولكان فيما يدّعونه حظ من الحقيقة.

سأل النجاشي المسلمين بعض الأسئلة، فأجابه جعفر رضي الله عنه: "أيها الملك: كنا قوماً أهلَ جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرْحَامَ، ونسيء الجوار، يأكل القويّ منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسـولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنـا نعبد نحن وآباؤنا من دونـه من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصدق الحديث، وآداء الأمانة، وصلة الرحـم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولِ الزور، وأكْلِ مالِ اليتيم، وقذْفِ المحصنة. وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنـا بالصلاة والزكاة والصيام. قال: فعدد عليه أمور الإسـلام فصدقناه، وآمنا بـه واتبعناه على ما جاء بـه فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك!".

ثم استرسـل جعفر بالكلام والنجاشي ينصت ملياً. فسأله عن سـيدنا عيسى ومريم عليهما السلام، فتلا عليه جعفر رضي الله عنه سورة مريم في خشوع ولم يتمالك النجاشي نفسه فأجهش بالبكاء. "فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عودا، ثم قال: ما عدا عيسى بنُ مريم ما قلت هذا العود".[4] نعم، لا فرق قطعا لأن الوحي النازل على جميع الأنبياء صادر من منبع واحد.

ردّ النجاشي المشركين مع ما حملوا إليه من الهدايا. وأعلن حمايته للمسلمين، لأنه شاهد أشعة عظيمة من الفضائل تشع من المسلمين رغم اللقاء القصير معهم. وكان هذا كافيا لاختياره الإسلام دينا له.

وإذا ما عدنا إلى الموضوع، نجد أن هذا الواجب المقدس السامي إن لم ينفّذ في حياة الفرد، فإن انتظار نشوء مجتمع فاضل لا يعني غير الخيال. وذلك للعلاقة الوطيدة بين الفرد والمجتمع، حيث إن المجتمع يتشكل من الأفراد. ولهذا فالمجتمع الفاضل هو الذي يتحلى أفرادُه بالفضائل. ومن جهة أخرى فكما أن الأفراد مضطرون إلى صيـانة الفضائل التي كسبوها فالمجتمعات أيضا مضطرة إلى صيانة الفضائل التي كسبتها من قبل. وكما ذكرنا آنفا، إن الفضائل التي يكسبها الإنسان ليست أزلية كما أنها ليست أبدية. فهي كينونة… بمعنى أن الفضيلة والخير المكسوب يقتضي الدوام على الشروط التي أكتسبت الفضيلة بسببها. ولا أحد غير الأنبياء عليهم السلام لهم الضمان، فلقد مُنح لهم هذا الضمان كأجرة مقدمة لما يحرزونه من ظهور في أثناء جهادهم بإرادتهم لكسب الفضيلة، لأن الله سبحانه قد علم بعلمه الأزلي ما يصلون إليه في المستقبل وكافأهم مسبقا بمنح إلهية. ولهذا فغير الأنبياء مهما كانت منـزلتهم ومقامهم مضطرون على الحفاظ على ما كسبوه من مقام، وإلاّ فالمآل الضياع والتقهقر دائماً.

والنتيجة التي نحصل عليها من هذا الاستطراد هي: أن الفضائل التي يُكسبها الأمر بالمعروف للفرد والمجتمع تدوم ويحافَظ عليها بالأمر بالمعروف أيضا. وبخلافه سيبدأ التقهقر والتراجع تدريجياً حتى ينتهي بانتهاء ذلك المجتمع القاصر. وللحيلولة دون بلوغ هذه النتيجة لابد من إذكاء القوة المعنوية وجعلها في حيوية مستمرة. وهذا يحصل أيضا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بمعنى أن هذه الوظيفة المقدسة حياةٌ للفرد وللمجتمع على السواء، وفي الوقت نفسه شرط للحفاظ على الحياة. ولعل هذا هو السبب في اشتراط سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف عند قبوله البيعة من بعض الأشخاص.

فمثلا قد قَبِل بيعة جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه على هذا الشرط. يقول هذا الصحابي الجليل: "بايعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على إِقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة والنّصح لكلِّ مسلم".[5] وهذا يعني بوضوح: أن عليك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فضلا عن ذلك فإن هذه الوظيفة المقدسة تُكسب الإنسان فضائل العبادات الأخرى أيضاً، لأن الذي يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الذي نذر نفسه لهذا الأمر الجليل قد زيّن نفسه أولاً بتلك الفضائل لدى قيامه بهذه الوظيفة واستعد للتحلي بأية فضيلة أخرى. إذ إنه يؤدي أصعب الأمور وأثقلها، عمل الأنبياء بل غاية حياتهم. فلاشك أن مقامه أيضاً يكون في مستوى رفيع.

انظروا إلى القرآن الكريم كيف يشير إلى ثقل هذه الوظيفة المقدسة لدى ذكره وصية لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اْلأُمُورِ﴾(لقمان:17).

يتبين من الآية الكريمة أن سيدنا لقمان يعظ ابنه بإقامة الصلاة أول ما يعظ ثم يعقبها بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكأنه يريـد أن يقول لابنه:

يا بنيّ إن من لا صلاة لـه لا جهاد لـه، فالصلاة شرط لقبول جميع العبادات، لذا عليك أن تؤدي عبوديتك هذه تجاه ربك أولاً، ثم اسع بما عندك من جهد أن تنشر حولك هذا المعروف وتسعى لمنع المنكر والنهي عنه. وفي أثناء قيامك بهذا العمل ستجابهك أنواع شتى من النوازل والمصائب. فتجمّل بالصبر تجاهها منذ البداية وفي أول الطريق.

إنه لا مفاجأة ولا عجب لصاحب أية دعوة كانت مجيء البلايا ونـزول المصائب. بل هي منتظَرة، لأنه لم يحدث خلافه لحد الآن. ذلك لأن هذا العمل من المهام الجسيمة وما لا يتحمله إلاّ أولو العزم من الرجال و ما لا يقدر على جزائه إلا الله سبحانه وتعالى. وستعلو بهم هذه الأمور العظام ليكونوا مع أولئك العظام، ولكن سيتعرضون هنا للبلايا والمصائب التي هي ملازمة لأولئك العظام. وما عليهم إلا التجمل بالصبر اللائق بأولئك العظام.

يبين الرسـول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديث شـريف أهمية هذه الوظيفة الجليلة إذ يقول: "خيـارُ أمّتي بَين جُهَلائهم في بَـلاءٍ وَجِهادٍ".[6] وحديث آخر يؤيد هذا الأمر: "المسلم إذا كان مخالطا النّـاس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الّـذي لا يخالط النّـاس ولا يصبر علَى أَذاهم".[7]

 نعم، القيـام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع فاسد آسن، عبادة أفضل من انكفاء المرء على نفسه متفرغا للتعبد في زاوية قصية بعيداً عن المجتمع. ولـو لم تكن هذه الوظيفة أفضل من العبادة الشخصية لكان الرسـول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يغادر بيته ويمكث منشغلا بالفيوضات والتجليات الربانية وما كان يخالط الناس قط. وكذا لو لم تكن هذه الوظيفة أفضل من غيرها من الأعمال ولاسـيما اعتزال الناس لما خوطب بـ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ﴾(المدثر:1-2).

الدين كله نصيحة، الدين أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "الدّين النّصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم".[8]

وعلى هذا فالمؤمن يعرّف بالله دون توقف وهذه القضية قضيته الأساس. بل يفرغ نفسه لهذا العمل حتى يجافيه النوم ويفقد شهيته للطعام في يوم لم يتمكن من تعريف الآخرين بالله ولا يعدّ ذلك اليوم من حياته.

وكذا سيكون التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم شغله الشاغل فيسرد ما تحمله صلى الله عليه وسلم في سبيل هذه الدعوة من مشاق ويتحدث عن هذا ويتحدث.. حتى يضمن أن يتخذه السامعون قدوة في أعمالهم كافة.

وكذا سيكون تعريفه بالقرآن الذي أنـزله الرب الجليل دستوراً وهادياً للعمل. وأن عزنا وكرامتنا منوطتان باعتصامنا به. هذا ما نفهمه من شهادة التاريخ، إذ ما أن اعتصم به العالم الإسلامي وعمل بأحكامه إلاّ وجال في الذرى، وبخلافه ما إن أرخى يده عنه حتى تفرّق شذر مذر.

أرى هنا ضرورة تقتضي البيان وبحسرة في قلبي، أقول حسرة وحزناً لأنني كلما فكرت فيه أجدني متألماً أشد الألم وهي:

إن مسلمي يومنا الحاضر أصبحوا لا يفقهون شيئا من كتاب الله. فهم في واد والقرآن في واد آخر. وغدا ارتباطهم بالقرآن شكلياً محضاً. فتجد الذي ينهر مَن لم يرفع القرآن فوق صدره احتراما، وهو في حياته المعيشة يخالف القرآن مخالفة كلية. فالذي لا يتخذ قرآنه دسـتور حياته ولا يجعل الاحتكام به غاية حياته، يعاقب في الآخرة عقاباً أليماً مهما كان عنوانه وموقعه. وحتى لو احتفظ بالقرآن في الدنيا في محافظ أو علّقه في موقع رفيع، بل ربما سيُعلّق هو كذلك من قفاه أو رجليه، لمخالفته ذلك القرآن وارتكابه الآثام في حياته الدنيوية.

ليت شعري هل يمكن أن يرفع ستار الغيب ولو للحظة ليرى هؤلاء الناس من وعاظ ومفتين وكتّاب ومحررين ومفكرين وقرّاء ومستمعين ومعلمين مصير بُعدهم عن القرآن وهجرهم له… ولكن هذا الأمر يعني سلب الإنسان من إرادته وهو مخالف لسر الامتحان والتكليف.

قلنا: رفع ستار الغيب لمشاهدة لوحات الآخرة. ولكن أظن أن قليلاً من التفكير كاف لرؤية عاقبتنا في الدنيا، أليست واضحة وضوح الشمس في رابعة النهاركيف ندفع ثمن بقائنا بعيدين عن القرآن؟ ولمن؟. تُرى أي ذل ننتظره بعد هذا الذل ليكون وسيلة لاعتصامنا بالقران ودفعنا إليه؟. نعم لا بد أن ينتهي هذا الوضع الأليم ولابد أن يعلم العالم الإسلامي أن المنقذ الوحيد هو الاعتصام بكتاب الله. وما بُعث النبي العظيم إلاّ لإفهامنا هذا الأمر. وسترتفع وتعلو الإنسانية بمقدار استيعابها لأوامر كتاب الله.

والنتيجة أن الإنسان، في المستوى الفردي من جراء قيامه بهذه الوظيفة المقدسة يصبح وسيلة لإيقاظ الأشخاص على صوت الإيمان، ينال ثواباً مثل جميع ثوابهم. يعني: أنكم إذا أصبحتم وسيلة لإقناع شخص ما إلى أهمية الصلاة ووجوب الزكاة وحكمة الصيام وضرورة الإرشاد وما شابهها من الأمور، فالثواب الحاصل مما يفعله و سيفعله ذلك الشخص من هذه الأعمال يُكتب لكم مثل ثوابه دون نقصان. ذلك "إنّ الدّالّ على الخير كفاعله"[9] كما قال من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم. فضلاً عن ذلك فإن الثواب الحاصل مما يغنمه ذلك الشخص الذي هداه الله إلى الإيمان بإرشادكم، يكتب لكم مثل ثوابه أيضاً. وهذا يبين لنا مدى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث العمل الصغير في هذه السبيل يورث الإنسان أثوبة إلى هذا الحد. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

"مَن سنّ في الإسلام سُنّةً حسنة فَعُمِل بها بعده كُتِب له مثلُ أَجرِ مَن عَمِل بها ولا يَنقُص من أجورهم شيء ومَن سَنّ في الإسلام سنّة سيِّئةً فَعُمِل بها بعده كُتِبَ عليه مثلُ وِزْرِ مَن عمِل بها ولا ينقص من أَوزارهم شيء".[10]

 فكل من سار في ضوء هذه السنة يأخذ ثوابه، سواء أكان من الأقارب أو البعيدين. لأن فتح نهج جديد وسنّ سنة حسنة كنفخ حياة في حياتنا الاجتماعية الميتة، وحتى إذا فارقنا هذه الحياة ورحلنا من هنا، فإن تلك الحسنات تظل في سجل حسناتنا. ويمكننا أن نقيس الحسنات الأخرى على هذا.

يجب ألاّ ننسى أن يوماً ما سيحملوننا على محمل بلا روح و يضعوننا في حفرة ويهيلون علينا التراب، وحتى أقرب الناس إلينا من أب وأم وصديق وأخ وأحباب سيتركوننا هناك. وستنـزل علينا غدقا من تلك الأثوبة التي ترد من السنّة الحسنة التي سننّاها. وستجعل قبرنا غارقا في بحر من الأنوار. وفي هذه الحالة سنكون أحياءً إلى يوم القيامة بتلك البذور التي بذرناها في الدنيا مع أننا أموات من حيث أجسامنا.

تأملوا في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل إلى العالم الآخر منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، ولكن مَن ينعم بالحياة مثله ومَن هو حي مثله؟ إذ يفتح يوميا ولا يغلق أبداً سجل حسناته بجميع صحائفه وتُكتب له الأثوبة؟ ثم يليه مَن وضع لبنة من ذهب في بناء الحياة الاجتماعية، وهم يربون على الملايين وكلهم أخذوا ثوابهم بنسبة ما أصبحوا وسيلة لسنّة حسنة. نعم إن رحمة الله واسعة وحسب المرء أن يسلك الطريق الذي يوصل إليها.

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "كلُّ الميّت يختَمُ على عمله إلاّ المُرابط فإنّه يَنْمُو له عملُه إلى يوم القيامة ويُؤَمَّنُ من فَتَّان القبر".[11]

نعم "المرابط" الذي نذر نفسه في سبيل الحق، ولا يفكر في شيء غير دعوته، وجعل غاية حياته سد الثغرات التي قد تتسرب منها المهالك والمخاطر إلى بلاده، ويعدّ تبليغ ما منّ الله عليه من يُمن وبركة إلى الآخرين أعظم وظيفة. فإنسان كهذا لا يُغلق سجل حسناته قط، بل ينمو ويربو كل حين. وفي تاريخ الإرشاد والتبليغ مَن نثر ملايين من بذور الإرشاد ثم ارتحلوا دون أن يشمّوا رائحة وردة منها. ومَن بذر تلك البذور وشاهدوا اخضرار الأرجاء بالربيع الزاهر بعد خمسين سنة. فأثوبة جميع هؤلاء حولت قبورهم إلى مركز إشعاع ومنبع نور.

نعم، إن الله سبحانه وتعالى يربي أعمالهم وينمّي حسناتهم ويعصمهم من فتنة القبر وينـزل عليهم سيولاً من الأنوار. بمعنى أن هؤلاء قد ماتوا بجسمانيتهم فحسب، وهم أحياء من حيث الثواب، بل أكثر حياة ممن يسمّون أحياء ولم يوفّقوا إلى مثل هذا العمل.

الهوامش

[1] البخاري، الإيمان 4-5؛ مسلم، الإيمان 65؛ أبو داود، الجهاد 2.

[2] البداية والنهاية لابن كثير، 3/105.

[3] أبو داود، الجنائز 56؛ السنن لسعيد بن منصور، 2/228؛ المسند للإمام أحمد، 1/461؛ المستدرك لحاكم النيسابوري، 2/338.

[4] المسند للإمام أحمد، 1/201-202؛ السيرة لابن هشام، 1/358-362؛ البداية لابن كثير، 3/88؛ دلائل النبوة لأبي نعيم، 1/243-253؛ البيهقي، دلائل النبوة، 2/301-303.

[5] البخاري، الإيمان 42؛ مسلم، الإيمان 97؛ الترمذي، البرّ والصلة 17؛ الدارمي، البيوع 9.

[6] الفردوس للديلمي، 2/174.

[7] الترمذي، القيامة 55؛ ابن ماجه، الفتن 23؛ المسند للإمام أحمد، 2/43.

[8] مسلم، الإيمان 95؛ البخاري، الإيمان 42؛ أبوداود، الأدب 59؛ الترمذي، البر والصلة 17؛ النسائي، البيعة 31.

[9] الترمذي، العلم 14.

[10] مسلم، العلم 16؛ الترمذي، العلم 15؛ المسند للإمام أحمد، 4/361.

[11] أبو داود، الجهاد 16؛ الترمذي، فضائل الجهاد 2.