الفصل الخامس: وحدة الـنظـر والقدم
والعمق الآخر لدى رسولنا صلى الله عليه وسلم هو وحدة الفكر والتطبيق؛ فأي هدف توخاه استطاع أن يسير نحوه، وأي فكرة اقترحها استطاع تطبيقها؛ وعلى هذا الاعتبار استطاع أتباعه أن يطبقوا كل ما قاله دون أن يبقوا في حيرة أو تردد أو اضطراب.
أ- إنسان التخطيط
أصبحت الخطة من أهم المسائل في أيامنا الحالية. فأصبحت الدول والأمم تهتم بالتخطيط في كل شيء كأساس مهم في التنمية وفي حركة النهوض. ولتحقيق هذه الغاية تأسست عندنا هيئة الدولة للتخطيط، وإلا لما تحقق أي شيء في مجال النمو وفي مجال التقدم والنهوض المتوازن. ويمكن جس نبض المجتمع من خلال الخطط. فالتخطيط -في أحد أوجهه- شرط أولي لوضع بنية المجتمع تحت المراقبة والسيطرة. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يملك كومبيوتراً ولا عقلاً ألكترونياً ولا هيئة تخطيط، ولكنه كان يعطي القرارات الصائبة في التو واللحظة ثم يخطو لتنفيذها... كان يعطي قراراته لمسائل بعُمْر مئات من السنين، ولم يكن يترك أي مشكلة في أي مسألة من هذه المسائل. أي لم يقل أحد شيئاً ضد ما قاله حول أي مسألة من المسائل ولم يستطع أن يقول. علما بأنه كان مكلفاً -ذكرنا ذلك سابقاً من زاوية مختلفة- بالتبليغ. لذا، فكان عليه أن يكون دقيقاً جداًّ بحيث يحسب حساب خطواته جيداً؛ فلا يتقدم ولا يتأخر مِليمتراً واحداً أكثر أو أقل من المطلوب. وكل تفاصيل حياته شاهدة على ما نقول. ففي مكة نراه مثال الصبر ومثال التحمل، ينتظر دون كلل أو ملل... ينتظر على رأس الدعوة بصبر وهدوء.. هدوء المياه العميقة الغور بما نستطيع أن نطلق عليه اسم "الفعالية الصامتة". وفي هذا العهد يصدر أوامره بالهجرة إلى هنا وهناك ليحمي الضعفاء، لأنه كان في عهد اختل فيه ميزان القوة لصالح أعدائه، ولأنه لايملك القوة في ذلك العهد نراه يبذل قصارى جهده لعدم تهييج أو إثارة خصومه قدر الإمكان ومحاولة تهدئة الأمور. أما في المدينة فقد اتبع طريقاً آخر خطط فيه شكل الدعوة حسب القوى والتوازنات الموجودة وحسب قوة الطرف المقابل. والحقيقة أن تغير الاستراتيجية بين عهود مكة والمدينة وما بعدها نتيجة طبيعية لتغير وتيرة توسع الدعوة ونضوجها وتبلورها. فعهد مكة كان يتطلب طرزاً معيناً من التصرف، وعهد المدينة يتطلب طرزاً آخر. فلو تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة مثلما تصرف في المدينة لكان ذلك -حاشاه- نقصاً كبيراً في تخطيط هذا الشخص صاحب الخطط والاستراتيجية الدقيقة. فقد بعثه الله تعالى لكي يعطي القرارات الصحيحة ولينقذ البشرية من الاضطراب والحيرة.
أجل، لقد اتبع في المدينة طريقة آخرى... وكان هذا ضروريا، فكل خطوة خطاها كانت مقدمة للخطوة القادمة، والخطوة التالية كانت طبعاً نتيجة للخطوة السابقة؛ فلم يخط في حياته خطوة واحدة إلى الخلف. فكيف يخطو الرسول صلى الله عليه وسلم خطوة إلى الخلف وهو الذي استخرج النصر من الهزيمة في معركة أُحد؟ لم يخط أبداً إلى الخلف... بل إن كل خطوة من خطواته تشهد أنه رسول الله. فأسلوبه وطريقة تصرفه في موضوع الهجرة مثال حي على هذا. فما كانت الهجرة إلى الحبشة والمدينة إلا مقدمة وباباً سِريّا لبزوغ عهد الهداية والانتصارات.
ب- المشكلة المحتملة الآن: العنصرية
كم من مشكلة حلها الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك ولم تحلّ حتى الآن. أما المشاكل التي ستأتي في المستقبل القريب ثم في المستقبل البعيد فهي كثيرة ومتداخلة بعضها مع بعض. فمثلاً هناك احتمال كبير أن تصبح قضية الزنوج في المستقبل البعيد من أهم المشاكل التي ستدوخ البشرية. فهذه المشكلة المتحفزة للوثوب حالياً والتي تنتظر الفرصة المناسبة للانقضاض والانفجار تقلق كل المراقبين الذين يقدرون مبلغ خطورتها.
لماذا؟ ذلك لأنه لا ينظر إلى الزنجي نظرة إنسان حتى ونحن على أعتاب الدخول إلى القرن الحادي والعشرين. فهو مهان في جنوبي إفريقيا بسبب لونه، وهو لا يستطيع تبوأ أي منصب مهم في الولايات المتحدة الأمريكية. كما يتعرض الأجانب في فرنسا وألمانيا إلى الضرب وإلى المهانة. بينما وضع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يده العطوف على هذه المشكلة وحلها بكل بساطة. أجل، فالناس -حسب المبادئ التي جاء بها- سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي ولا فضل لأعجمي على عربي.[1] ويجب إطاعة عبد حبشي إن جاء إلى الحكم بشروطه.[2]
وانسجاماً مع أحاديث كثيرة للرسول صلى الله عليه وسلم التي شرحت هذا الموضوع نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن بلال رضي الله عنه: "أبو بكر سيّدُنا وأَعتَق سيّدَنا" يعني بلالاً.[3]
كان زيد بن حارثة رضي الله عنه أسود البشرة، وبِيع للرسول صلى الله عليه وسلم عبداً فأعتقه الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله حراًّ وتبناه، أي جعله ابناً له.[4] وكان هذا أمراً لا يتصوره أحد وشيئاً غير مستساغ. فكيف يقوم إنسان من نسب معروف ومشهور بتبني عبداً أسود ثم جعله وارثاً له.[5] ثم جعل ابنه أسامة قائداً على جيش فيه كبار الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم.[6] وأعظم من هذا قيام النبي صلى الله عليه وسلم بتزويج زيد من زينب بنت جحش[7] التي كانت ذات حسب ونسب وكانت جديرة بأن تكون زوجة نبي.
وإضافة إلى هذا كان زيد بن حارثة وابنه أسامة رضي الله عنهم مقربين إلى رسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه شكا إلى والده الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلاً له: يا أمير المؤمنين فضّلت عليَّ من ليس هو بأقدم مني سِناًّ ولا أفضل مني هجرة، ولا شهد من المشاهد ما لم أشهد. قال: ومن هو؟ قلت: أسامة بن زيد، قال: صدقتَ لَعَمْرُ الله! فعلتُ ذلك لأن زيد بن حارثة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر، وأسامة بن زيد كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن عمر، فلذلك فعلت.[8]
أجل، لقد كان أمراً جللاً آنذاك أن يكون زيد بن حارثة رضي الله عنه قائداً على جيش يشترك فيه أحد أشراف قريش مثل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه...[9] ليس المهم هنا سرد المدائح حول هذا الموضوع... المهم هو التطبيق الفعلي لهذا المبدأ في الحياة الواقعية وجعله واقعاً معاشاً.
فالحل الوحيد لهذه المشكلة التي تهدد الإنسانية في المستقبل -كما أشرنا إليها قبل قليل- هو التعامل مع الزنوج على أساس المبدإ الإسلامي دون إضاعة الوقت. لأن على الإنسانية أن تجرب هذا الحل قبل فوات الأوان.
الناس ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وليس من حق أحد ولا من صلاحية أحد استعباد أي أحد. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).
ج- الحُديبية
لنذكر مرة أخرى فنقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائداً وزعيماً لا مثيل له في تطبيق أفكاره عملياً وجعلها واقعاً وحقيقة. ويمكن إيراد أدلة وشواهد لا حصر لها في هذا الخصوص، إلا أننا سنكتفي هنا بإيراد مثال واحد.
يروي ابن إسحاق أنه في السنة السادسة للهجرة وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه -الذين بلغ بهم الشوق غايته- بأداء العمرة. فمثل هذه العمرة كانت ستطفىء نار اللوعة والشوق التي تتأجج في صدور المهاجرين إلى وطنهم، وتعطي قوة دافعة جديدة للمسلمين، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في 1400 من أصحابه متوجهاً إلى مكة.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل من قبل رجلاً من قبيلة خُزاعة -وأهل مكة لا يعرفون أنه من أصحاب الرسول- ليتقصى له الأخبار. فوردت إليه الأخبار بأن قريشاً جمعت قبائل العرب واتفقت معها على منع الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من دخول مكة.
أجل، كانت قريش عازمة على منع المسلمين من دخول مكة وإن تطلَّب الأمر استعمال السلاح. وفعلاً طبقت ما عزمت عليه إذ وضعت المحاربين في موقع "بَلدَح"، وجاء خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل ومعهما 200 محارب إلى كُراع الغَميم وهي بين رابِغ والجُحْفة. وعندما بلغت هذه الأنباء رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى هناك بالمسلمين، فسمع خالد بذلك فأسرع إلى مكة يخبر قريشاً بما استجدّ من أخبار. وفي هذه الأثناء كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ الحُديبية.[10] والحُديبية اسم لمكان يبعد عن مكة 50-60 كم تقريبا، وكان هناك في السابق بئر في هذه المنطقة بهذا الاسم. فأطلق هذا الاسم على قرية موجودة هناك.
1. معجزة الماء
لم يكن في هذه المنطقة التي نزل بها المسلمون أي ماء... كانت هناك بئر من قبل، ولكنها الآن جافة لا ماء فيها فقيل له: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرجَ سهماً من كنانته وأعطاه إلى رجل من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القُلُب فغرزه في جوفه فجاش بالرواء. كانت هذه معجزة لا شك فيها، إذ أظهر الله تعالى معجزة على يد نبيه ليسعف حاجة الصحابة إلى الماء. وشرب الجميع من هذا الماء وتوضأوا منه وملأوا أوعيتهم.
2. الرسل
مع أن قبيلة خُزاعة لم تكن قد أسلمت بعد، إلا أنهم تحالفوا مع المسلمين. وعندما سمعت بتهيء أهل مكة للقتال أسرع وفدٌ منهم وأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر... كان بُديل بن ورقاء من بين الوفد ولم يكن مسلماً آنذاك إلا أنه أسلم بعد فتح مكة؛ ونظراً لكون الرسول صلى الله عليه وسلم يثق فيه فقد أرسله إلى أهل مكة يخبرهم بأنه لم يأت للقتال بل لأداء العمرة.
جاء بديل إلى مكة وبلغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وكان عروة بن مسعود الثقفي من بين المستمعين، فرأى أن ما قاله بُديل أمر معقول، فاقترح على أهل مكة إرساله للنبي صلى الله عليه وسلم للتفاوض معه، فرضوا به رسولاً.
جاء عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ يحادثه، ثم جعل يتناول لحية الرسول صلى الله عليه وسلم -على عادة العرب- وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، فجعل يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفُفْ يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. وسأل عروةُ: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: أيْ غُدَر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس. إذ كان قد دفع الدية عنه عن جريمة ارتكبها مغيرة... لكم تغير ابن أخيه مغيرة بعد إسلامه حتى أنه لم يعرفه... ثم ما هذا الحب الشديد الذي يبديه المسلمون نحو زعيمهم... لقد ذهل إذ رأى ما يصنع به أصحابه: لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. وعندما رجع إلى قريش قال لهم:
"يا معشر قريش! إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً فَرُوا رأيكم."
لم يثمر هذا التفاوض عن شيء فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم خِرَاش بن أمية الـخُزاعي إلى قريش وحمله على بعير له، ولكن قريشاً عقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتل خِرَاش بن أمية الـخُزاعي فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى رجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
3. عثمان رضي الله عنه مبعوثاً للنبي صلى الله عليه وسلم
أصبح من الضروري إرسال مبعوث آخر إلى قريش، وتم اقتراح اسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بادئ الأمر، غير أن أعداء عمر كانوا كثيرين وأصدقاءه قليلين، لذا كان نجاحه في التفاوض مشكوكاً فيه، وعندما أبلغ عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه هذا تقرر إرسال عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قامت قريش بحبس عثمان رضي الله عنه، ثم شاعت الأخبار أنهم قتلوه، وقويت هذه الإشاعة بعد تأخر رجوع عثمان رضي الله عنه. وعندما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل قال صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم.» ودعا إلى البيعة. وجلس الرسول صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت شجرة، لذا سميت هذه البيعة بـ"بيعة الرضوان تحت الشجرة" فأقبل المسلمون يبايعونه على الموت. وقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده بقطع هذه الشجرة إذ خاف أن يقدسها الناس.[11]
4. بيعة الموت
ما أن علم المسلمون بأمر البيعة حتى أسرعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأداء البيعة... البيعة للقتال حتى الموت... أدى الجميع البيعة بحماسة عدا شخص واحد.[12]
كان هناك شخص واحد في مكة لم يستطع المشاركة في هذه البيعة، وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي لم يكن أحد من المسلمين يعرف عما إذا كان حياً أم ميتاً. في هذه الأثناء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعيش إحدى فتراته التي يتجاوز فيها الزمان والمكان وينطويان أمامه... رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى قائلاً: «هذه يدي.» ثم رفع اليسرى قائلاً: «وهذه يد عثمان» ثم ضرب إحداهما بالأخرى.[13] ما أقدس هذه البيعة التي يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بالوكالة فيها..
كان الأمر خطيراً جدا، لأن المشاعر كانت متوترة والأحاسيس متأججة تكاد تنفجر... كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الشخص الوحيد الذي بقي مالكاً زمام نفسه ورباطة جأشه... ومع أن نفسه كانت مثل بركان يغلي ويكاد يقذف بالحمم، إلا أنه استطاع السيطرة عليها والتحكم فيها بإرادته التي تفوق إرادة البشر. رُحْماك يا رب! ما هذه الإرادة الصلبة..!
5. انكشفت الغمة
وبينما كان هذا الجو المتوتر سائداً شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم غباراً لفارس متوجه إليهم، فإذا به سُهَيْل بن عمرو وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفه فقال لمن حوله: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فهل تفاءل الرسول صلى الله عليه وسلم باسم سهيل فرأى أن الأمور بدأت تسهل..؟ هذا موضوع آخر. ولكن انظروا إلى مدى معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس وخبرته بهم، إذ ما أن رأى سهيلاً حتى حدس النتيجة. صحيح أنه عندما رأى عروة قال إن قريشاً تريد الصلح، إلا أن الأمر تأكد مع سهيل، وقد صدّقت الحوادث تخمين الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أكد سهيل أنه جاء لإبرام الصلح.
6. الاتفاق
كانت فقرات الاتفاق أو المعاهدة التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم تبدو وكأنها في غير صالح المسلمين، إلا أن القرآن الكريم أشار إلى كونها نصراً في نهاية المطاف.
كان سهيل يَعُدّ كل تنازل يقتطعه من المسلمين نصراً كبيراً له، لذا فإنه كان يعترض حتى في أصغر المسائل. فمثلاً عندما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم علـياًّ ليكتب معاهدة الصلح مع قريش قال له: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.» فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهم.» فكتبها ثم قال اكتب: «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سُهَيْل بن عمرو.» فقال سُهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن أكتب اسمك واسم أبيك. فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه أن يمحو كلمة "رسول" التي كان قد كتبها. وتردد علي رضي الله عنه إذ صعب عليه محو كلمة "الرسول" فقام النبي صلى الله عليه وسلم بمحو تلك الكلمة بنفسه وقال: «اُكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سُهَيْل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.»
فتواثبت خُزاعة فقالوا نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. ثم كان من الشروط التي ذكروها للرسول صلى الله عليه وسلم أنه: وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
7. هياج عمر رضي الله عنه
بدت بنود المعاهدة في النظرة الأولى مجحفة بحق المسلمين، ولاسيما الفقرة التي كانت تقضي بإرجاع المسلمين الهاربين من أذى المشركين إلى قريش، فقد أثارت هذه الفقرة المسلمين ولاسيما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والألم يعتصر قلبه، وقال له: يا رسول الله! ألست برسول الله؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلى.» قال عمر: أوَلسنا بالمسلمين؟
قال صلى الله عليه وسلم: «بلى.» قال: أو ليسوا بالمشركين؟
قال صلى الله عليه وسلم: «بلى.» قال: فعلام نعطي الدَّنِيَّة في ديننا؟!
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.»
ثم ذهب عمر رضي الله عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال له الكلام نفسه فقال له أبو بكر رضي الله عنه: "يا عمر! الزم غَرْزه، فإني أشهد أنه رسول الله." قال عمر: "وأنا أشهد أنه رسول الله." وقد ندم عمر فيما بعد على فقده أعصابه آنذاك وكان يقول: "ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً."
8. أبو جندل
ولنرجع إلى إبرام الاتفاقية... فإنه ما أن تم التوقيع عليها حتى جاء أبو جندل يرسف في الحديد هارباً من مشركي قريش، وكان أبو جندل ابنَ سهيل بن عمرو الذي وقع الاتفاقية مع الرسول صلى الله عليه وسلم: فلما رأى سهيل بن عمرو ابنه أبا جندل قام إليه وضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد، قد لَجّتْ القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو آسف ومهموم: «صدقت.» فجعل سهيل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش. وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته:
يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني! فزاد همّ المسلمين. وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبشر أبا جندل بأن هذا وضع موقت وأن الفرج قريب فقال له: «يا أبا جندل! اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فَرَجاً ومخرجاً.» وتحقق فعلاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم.[14]
9. أبو بَصير وأصدقاؤه
بعد صلح الحُديبية مباشرة هرب من مكة عُتْبَة بن أَسِيد المكنى بأبي بصير والتجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأرسلت قريش رجلين ليطلبا إرجاع أبي بصير، فأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم إليهما. ولكن أبا بصير استطاع أن يقتل في الطريق أحد الرجلين، وفر الثاني. وجاء أبو بصير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم بقاءه في المدينة لأنه كان قد أعطى عهداً وهو ملتزم بعهده وبكلمته. فخرج أبو بصير خارج المدينة وانتهى إلى موضع يقال له سِيف البحر وهو قريب من ذي المروة. وما أن سمع ضعفاء المسلمين في مكة بأمره حتى بدأوا يهربون إليه -وكان أبو جندل بن سهيل بن عمرو أولهم- حتى اجتمعت منهم عصابة بدأت تترصد قوافل قريش إلى الشام، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن. فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم واستقدمهم إلى المدينة، وهكذا زال بند ظالم في هذه المعاهدة؛ وذلك بطلب وإلحاح من أهل مكة أنفسهم. وكان هذا فتحاً مبيناً للمسلمين.[15]
وفي أثناء الرجوع من الحُديبية بدأت سورة الفتح بالنزول. وقد وصفت السورة معاهدة الحُديبية بأنها كانت فتحاً مبيناً.[16]
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم راضياً جدّاً... فكل ما فكر فيه كان يتحقق عندما يأتي أوانه... لقد بذر بذور هذا النصر في الحُديبية، ولكنه لم يظهر واضحاً أمام الأعين إلا الآن... فها هم أبطال سيف البحر من الشباب الغض يَفِدون إلى المدينة ويدخلونها عن طريق ”ثنيات الوداع“ فيستقبلهم أهل المدينة ويستقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكل بشر وفرح... لقد اضطر المشركون البغاة إلى نقض معاهدتهم بانفسهم...
ثم سيأتي يوم يقوم فيه المشركون باعتداء غادر على إحدى القبائل المتعاقدة والمتضامنة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أي يقومون بنقض معاهدتهم.[17] فيقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بالسير إلى مكة وفتحها وإحراز النصر النهائي الذي وضع أساسه في الحُديبية.
د- نتائج صلح الحُديبية
والآن لنستعرض ثمار صلح الحُديبية... فماذا جلب صلح الحُديبية؟ وماذا كسب المسلمون منه؟
كان سيف الإسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه أول من أسلم في عهد هذا الصلح. لم يكن خالد بن الوليد شخصاً يسلم نتيجة هزيمة في الحرب... وما كان له أن يكون كذلك... فما كان من الممكن لعزة نفسه التي انقلبت فيما بعد إلى عزة إسلامية أن يكون ممن يسلم بحد السيف. فقد يسّر الله تعالى بلطفه لهذا الشخص الذي سيكون قائداً لا نظير له في المستقبل أن يدخل إلى الإسلام بعزة نفسه؛ فلولا وجود فترة صلح مثل هذه الفترة ما كان في الإمكان ذوبان جليد قلب خالد.
لقد وجد خالد في فترة الصلح هذه الفرصة للتفكير... لقد أثرت ظروف صلح الحُديبية وما بدا ظاهرياً أنه كان ظلما للمسلمين، كذلك أثرت حال المسلمين حين أقبلوا يؤدون العمرة بعد عام... أثرت هذه الظروف على العديد من أصحاب العقول أمثال خالد بن الوليد تاثيراً كبيراً... لقد كانت فترة الصلح هذه فترة تطهر بالنسبة له، ولم تمض سوى فترة يسيرة حتى جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه.[18]
لقد كان قيامه بإعلان إسلامه طواعية وبملء اختياره سبباً في أن يكون "سيف الله"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع منه هذا. كما كان عمرو بن العاص ممن أسلموا في هذه الفترة.[19] فالحياة الرتيبة المملة التي أتت بعد صلح الحُديبية جعلت السأم يتسرب إلى قلوب هؤلاء الأبطال، ودفعتهم إلى اختيار الجبهة التي تموج بالحركة والحياة... الجبهة التي يقودها الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان عثمان بن طلحة أيضاً من الرجال العظام الذين كسبهم الإسلام في هذه الفترة، وكانت مفاتيح الكعبة لديه قبل إسلامه وعند فتح مكة أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة. هؤلاء الأشخاص بدهائهم السياسي والعسكري كانوا يستطيعون دحر الجيوش، ولكنهم رجعوا إلى أنفسهم في فترة الصلح هذه واهتدوا إلى الحق.
1. لا أحد يحتكر الكعبة
كانت قريش حتى ذلك اليوم تنظر إلى الجميع باستعلاء وبكبرياء؛ ولسانُ حالها يقول: ”نحن أصحاب بيت الله“. فلا يقترب أحد من الكعبة إلا بإذنهم. وكان على كل من يزور الكعبة أن يدفع ضريبة معينة وإلا منع من هذه الزيارة.
وفي صلح الحُديبية لم يذكر شرط دفع هذه الضريبة أو الإتاوة، وكان هذا خطأ كبيراً لحساب قريش، فعندما طاف المسلمون حول الكعبة بعد عام دون دفع هذه الإتاوة تنبهت القبائل الأخرى... إذن، فقريش ليست الصاحبة الوحيدة للكعبة وإلا فكيف استطاع المسلمون الآتون من المدينة الطواف حول الكعبة دون دفع هذه الإتاوة؟ ولماذا لا يملكون هم أيضاً مثل هذا الحق..؟ كان الجميع يتحدثون بهذا... لقد تبين لهم أن قريشاً وحدها لا تملك الكعبة، لذا فقد أتى الجميع في السنوات المتعاقبة إلى البيت الحرام دون أي عراقيل.
2. السلم أفضل جوّ للقيام بالدعوة
لقد توفر جو من الأمن وتم الخلاص من مشكلة قريش لمدة عشر سنوات. وكانت هذه الفترة مهمة جداًّ بالنسبة للمسلمين وضرورية لهم، إذ وجد الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة مواتية لإرسال الكوادر التي رباها وهيأها إلى مختلف الجهات، وكان هذا يعني ارتفاع صوت الإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية... أجل، لقد بدأ صوت القرآن يعلو في كل مكان، وبدأ الناس يهرعون ويستجيبون لنداء الإسلام. وهذه هي الفترة التي وصفها القرآن بقوله ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أفوَاجاً﴾ (النصر: 2). وعشر سنوات يعني تربية نسل جديد. ولم تكن قريش تدرك كيف أنها أعطت للمسلمين فرصة ثمينة، ولو أدركت ذلك لما اقتربت من مثل هذه المعاهدة. واستغل المسلمون هذه الفترة ليقطعوا شوطاً مهماً من الناحية النوعية والكمية. وكان الذين يلتحقون بالإسلام يزيدون القوة العسكرية الإسلامية ويزيدون الأمل لدى المسلمين، لذا فما أن حان الوقت المناسب وتوجه المسلمون لفتح مكة لم يكن أمام قريش سوى الاستسلام.
3. التعرف على الإسلام في الصلح
وفائدة أخرى وفرها صلح الحُديبية وهي أن العلاقة بين الطرفين -حتى صلح الحُديبية- كانت مقطوعة فلا يذهب أحدهما إلى الآخر. وكانت العلاقة الوحيدة بينهما هي التقابل في ساحات القتال. وفي ظروف الحرب لم يكن من الممكن تبليغ حقائق الإسلام إلى الطرف المقابل. وعندما تأسس الصلح بدأت الزيارات تقع بين الطرفين؛ والذين كانوا يجهلون فضائل الإسلام وجماله بدأوا يرونه عندما يزورون المدينة فيعجبون بهذا الجمال وينبهرون بهذه الفضائل والمحاسن التي يشاهدونها... كانت الحياة في المدينة كأنها قطعة من الحياة في الجنة يسحر من يشاهدها... الوضوء... الأذان... صلاة الجماعة... خشوع الناس في الصلاة والاطمئنان والأمان الذي يلفهم ويحيط بهم... كل هذا يسحر قلوب أهل مكة ويجذبهم إلى الإسلام. وبفضل صلح الحُديبية لم يبق تقريباً بيت لم يصله صوت الإسلام ورسالة القرآن، حتى بيت أبي جهل ولو كان أبو جهل حيا لبقي وحده في البيت خارج دائرة الإسلام. لذا، فقد كان صلح الحُديبية نصراً وفتحاً قبل فتح مكة.
أجل، لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يخطو خطوة يعرف جيدا كيف يخطوها. وما أن ينكشف أمام ناظريه مجال حتى يضع قدمه فيه؛ كانت وحدة الفكر والحركة عنده تقوم بالتغلب على جميع المصاعب.
4. الاعتراف بالإسلام رسمياًّ
والفائدة الخامسة التي أمنها صلح الحُديبية هي أن جميع الأقوام والقبائل اعترفت بالدولة التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وبحقها في إبرام المعاهدات مع من يشاء. فكما تقوم حاليا الدول المتشكلة حديثاً أو التي أعلنت استقلالها حديثاً بإبراز تعامل الدول الأخرى معها كدليل على اكتسابها الشرعية الدولية، كذلك كان الأمر بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي أبرم مثل هذه المعاهدة. فلماذا لا يعترف به أهل الطائف مثلا وهذه قريش قد اعترفت به بل وعقدت معه صلح الحُديبية؟ أجل، لقد تعاقبت الاعترافات بعضها وراء بعض.
هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم شخصاً رائعاً استطاع أن يستخلص هذه الانتصارات من مثل هذه المعاهدة التي كانت تحتوي على شروط قاسية. ففي جو لم يكن متاحاً له التفكير الطويل كان عليه أن يتخذ قراره ويوقع على هذه المعاهدة التي جلبت انتصارات غير متوقعة لم تكن تخطر على بال أحد. ولا شك أن هذه الانتصارات التي تجاوزت حدود تصورات وخيال البشر شاهدة على كونه صلى الله عليه وسلم رسولاً من عند الله؛ لأنه ما من إنسان مهما كان عبقرياًّ استطاع أن يصل إلى مثل هذا النصر من معاهدة بدت ظاهريا أنها هزيمة بالنسبة للمسلمين. ولأن مثل هذا النجاح منوط بقوة وبإرادة وبعلم يتخطى الحدود البشرية.
5. كان الله وراء ذلك
أجل، فعندما يتأمل المرء المسائل والمشكلات التي حلها صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا أن يرى القوة المحيطة بالوجود وهي تقف وراءه. وإن أداءه لهذه الرسالة والأمانة -الثقيلة ثقل الجبال- مثل هذا الأداء الممتاز شاهد على أن يد القدرة ويد الصيانة هي التي تولت رعايته صلى الله عليه وسلم وحفظه وحمايته وكأنها تقول: "إنه رسول من عندي" فلا نملك نحن تجاه ذلك إلا أن نهتف بوجد: "محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم "
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذ قراره بسرعة ويستطيع أن يلم بأطراف الموضوع في أقل وقت، وما من أمر تناوله إلا ونجح في إنجازه. وهذه هي سيرة حياته تشهد بأنه ما من أمر فصله أو قرار اتخذه أو سلوك سلكه اضطر فيما بعد إلى تكملة النقص فيه، أو تصحيح انحراف به. بل إن بعضاً من القضايا التي بدت في نظر الآخرين أولا وكأنها هزيمة ما إن مد يده إليها حتى حول هذه الهزيمة إلى انتصار، وجعل الإدبار إقبالاً... فالهزائم كانت تنقلب في يديه إلى انتصارات. فكأنه كان يقلب طبيعة الأمور، ويغير مجراها وسبل سيرها فيعطي لها طبيعة أخرى ومجرى آخر. هذا علماً بأن كل هذا من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى ﴿وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الصافّات: 96).
فالله تعالى كان يخلق أفعاله بيد أكمل وأشرف وأفضل مخلوقاته... لماذا؟ لأنه كان يريد أن يقول: هذا عبدي وهو رسولي... فاعلموا هذا... واعلموا أني مؤيده في كل شيء... فلو تجاوز عددكم الملايين والبلايين وكان هو واحداً فريداً لانتصر عليكم جميعاً... لماذا؟ لأني أؤيّده وأنصره إذ "لا حول ولا قوة إلا بالله." ويجب ألا ينسى أحد أنني وراءه، فمن حارب من كان الله تعالى وراءه فكأنه يحارب الله تعالى.
لم يُغلَب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من الممكن أن يُغلب، والذين كانوا يحاولون التغلب عليه إنما كانوا يناقضون عقولهم وقلوبهم... أي أنهم لم يكونوا سوى أشخاص بؤساء يحاولون التعرض لعمل مستحيل. والله تعالى يعطي لأمثال هؤلاء بعض الإشارات والإيماءات "أن أفيقوا... أفيقوا أيها المتجاوزون حدودهم." فإن لم يفهموا كل هذه الإشارات أمسك بهم وأنهى أمرهم.
أجل، لا يمكن محاربة محمد صلى الله عليه وسلم ولا مجابهته والتعرض له، ذلك لأن الله ناصره، حتى إنه يقول له حين بدر تجاهه شيء من زوجاته ﴿فَإنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤمِنينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِير﴾ (التحريم: 4). أي أن سكنة السماء كلهم بجانبك... وعندما يكون كل هؤلاء من جندك فلن تغلبك الملايين ولا البلايين إن تعرضوا لك، ومن يفعل ذلك فكأنه يناطح الصخر الصوان برأسه حتى يحطمه. وقد يمهل الله تعالى مرة أو عشرا أو عشرين أو ثلاثين مرة لكي لا يبقى لهؤلاء أي عذر وكأنه يقول لهم: "تأملوا! وافهموا... وتعالوا إلى الصراط المستقيم لكيلا يبقى لديكم أي عذر يوم القيامة." ولكنه عندما يأخذهم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما ورد في أحد الأحـاديث الشـريفة.[20]
الهوامش
[1] «المسند» للإمام أحمد 5/441؛ «كشف الخفاء» للعجلوني 2/326؛ «الفوائد المجموعة» للشوكاني ص227؛ «المسند الفردوس» للديلمي 4/300
[2] البخاري، الأحكام، 4؛ مسلم، الإمارة، 37؛ ابن ماجه، الجهاد، 39
[3] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 23؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 1/243-245
[4] وذلك قبل تحريم التبني. (المترجم)
[5] البخاري، المغازي، 12، النكاح، 15؛ أبو داود، النكاح، 9؛ النسائي، النكاح، 8؛ «الإصابة» لابن حجر 1/563-564؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 1/281
[6] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 17؛ مسلم، فضائل الصحابة، 63
[7] «الإصابة» لابن حجر 1/564
[8] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 4/70؛ «الإصابة» لابن حجر 1/564
[9] البخاري، المغازي، 44؛ «المسند» للإمام أحمد 5/299
[10] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/323؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/95
[11] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/100
[12] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/330
[13] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/330
[14] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/321-333؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/188-193
[15] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/337-338
[16] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/334
[17] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/32-37
[18] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/272
[19] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/269
[20] البخاري، تفسير سورة (11) 5؛ مسلم، البر والصلة، 61
- تم الإنشاء في