حب الراحة

كل دعوة سامية، وكل حقيقة تكتسب الاستمرارية وتصل إلى المستوى العالمي نتيجة عزم وإخلاص منتسبيها وجهودهم المبذولة في الحفاظ عليها. فإن حرمت أية دعوة من المنتسبين الأوفياء المخلصين الواعين الذين يحافظون عليها ضد هجوم واعتداءات أعدائها فمصيرها إلى الزوال والانهدام عاجلاً أم آجلاً والدخول إلى عالم النسيان والإهمال.

كما تأسن المياه التي فقدت حركتها وركدت، كذلك يكون الذبول والضياع مصير الكسالى الذين تركوا أنفسهم للتراخي والركود. إن الرغبة في الراحة والخمود هي أولى إشارات الموت وإنذاره. ولكن الشخص الذي انقاد لمشاعره وأحاسيسه وانشغل بها لا يفهم هذه الإشارة ولا يسمع هذا الإنذار، ولا يستفيد من نصائح أصدقائه وتحذيراتهم.

الكسل والانقياد إلى الراحة من أهم أسباب الذل والحرمان. ولا ريب أن الذين رموا بأنفسهم في أحضان الكسل فماتت أرواحهم... هؤلاء سيأتي يوم يضطرون للتذلل للآخرين للحصول على حاجاتهم المعاشية الضرورية.

فإذا أضفنا إلى هذا الحب الشديد للراحة والارتخاء الرغبة الكبيرة في التملك، كان التراجع عن خط النضال، وموت الروح أمراً مقدراً ولا مفر منه. وإذا لم يتم رصد هذا التراجع والتقهقر إلى الوراء، وتعلق النظر بمظهره الخارجي وعده رجلاً كامل الرجولة... مثل هذه النظرة نظرة خاطئة ونظرة مهلكة.

كان حب الكفاح وعشق الجهاد هو السبب في ولادة دولة كبيرة من قبيلة صغيرة.[1] وعندما احتل حب الجواري مكان عشق الجهاد تداعت هذه الدولة أنقاضاً.

عندما تركت الرغبة في الجهاد مكانها لشهوة الجواري وشهوة المساكن والقصور في النفوس، تلقت هذه النفوس صفعات شديدة من القدر على عكس توقعاتها، وحرمت من بيوتها الدافئة ومن أطفالها وأولادها.

وما أبلغ هذه الكلمات التي قالتها أم لابنها الأمير الأندلسي الذي هرب من مواجهة الأعداء وقتالهم:

"ابكِ مثلَ النساء ملكاً مضاعفاً           لم تحافظ عليه مثل الرجال".

إن التغير الذي يطرأ على الإنسان فيفسده ويذبله، يطرأ تدريجياً وبشكل صامت وبطيء جداً. وقد تؤدي غفلة صغيرة أو انحراف قليل عن سير القافلة إلى ضياع كامل. ولكن أمثال هؤلاء الذين يتوهمون أنهم لا يزالون على الخط نفسه وفي الموضع نفسه لا ينتبهون إلى سقوطهم من مواقع مرتفعة ارتفاع المآذن إلى قعر عميق عمق الآبار.

ويستحيل على الذين يتركون خط المجاهدة والكفاح وينحرفون عن الخط الرجوع إلى مواقعهم الأولى عادة، ذلك لأنهم وهم يتقلبون في حمى الشعور بالذنب لا يرون أمامهم -في سبيل الدفاع عن أنفسهم- سوى سلوك نقد وتجريح إخوانهم في سلك الدعوة. فمقابل استغفار آدم عليه السلام عن زلته واستغفاره واعترافه بخطئه ورجوعه إلى موقعه السابق بقفزة واحدة، نرى قيام إبليس بتبرير عمله والدفاع عن نفسه على الرغم من جرمه الكبير، فاستحق بذلك اللعنة الأبدية والخسران الأبدي.

إن لأمثال هؤلاء الذين أصاب الشلل إرادتهم وعزيمتهم تأثيراً سلبياً كبيراً على روح وعزيمة المحيطين بهم. حتى أن تردداً قليلاً أو إحجاماً بسيطاًَ يبديه أحد هؤلاء قد يسبب هزة ويأساً في العزائم يعادل هزة موت مائة فرد. وهذا لا يؤدي إلاّ إلى تشجيع أعداء الأمة والوطن وزيادة شهيتهم في الهجوم علينا.

إن زينة الحياة الدنيا وجمالها والمال والبنين إن هي إلاّ امتحان وفتنة. والطلاب الذين ينجحون في هذا الامتحان نجاحاً باهراً هم أصحاب الإرادة القوية الذين ارتبطت قلوبهم ارتباطاً دائمياً بالحقيقة والذين أعطوا عهدهم وميثاقهم ألاّ يتزحزحوا ولا ينكثوا عهدهم وميثاقهم.

الهوامش

[1] يشير الكاتب هنا إلى ولادة الدولة العثمانية من قبيلة صغيرة. (المترجم)

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.