الفصل الثاني: نبينا والمعارك التي خاضها

أ- معركة بدر وأسبابها

تحت هذه الظروف التي رعتها السماء تم الإقبال على بدر، لقد جاء الوقت المناسب لإنـزال الضربة النهائية على رؤوس الذين يعرقلون ويمنعون الدعوة المخلصة الصافية إلى الله تعالى وإلى إعلاء كلمة الله، ولكي يقال لأعداء الله: لن تستطيعوا بعد الآن منع ذكر اسم الله تعالى في أرجاء الأرض ولن تستطيعوا إدامة الضغوط على النفوس المنفتحة على دعوته. أجل، فدعوة الله يجب ألا تبقى منحصرة في مكان محدد، بل يجب أن تدخل إلى النفوس جميعها لتطمئن بها جميع القلوب، ويجب أن تزال جميع العقبات من أمام إعلاء كلمة الله لكي لا تبقى هذه الكلمة في نطاق الأسر، بل لتنتشر في آفاق الإنسانية كلها، وتكون لها مبدأً. ولكي يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بإنـزال الضربة الاخيرة على مشركي مكة الذين لم يعترفوا له بحق الحياة الكريمة في مكة، فكان عليه أن يفتح الطرق المؤدية إلى حرية الفكر ويحطم كل ما يعوق أو يمنع هذه الحرية.

ثم إن المسلمين كانوا قد فقدوا جميع أموالهم التي اكتسبوها حتى ذلك الحين. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عندما هاجروا من مكة لم يستطيعوا أن يأخذو معهم إلا الشيء القليل، وتركوا كل أموالهم وأملاكهم في مكة المكرمة، وكان أهل مكة يحملون هذه الأموال على الجمال ويذهبون بها أمام أنظار المسلمين لبيعها في الشام أو اليمن. كانت الأموال المحملة على القافلة المارة بالقرب من المدينة أموال المسلمين وكان يجب استردادها.

ثم كان من الواجب معاقبة بعض الأشخاص الذين كانوا يطاردون المسلمين، ويهددونهم ويضيقون الخناق عليهم ويعذبونهم، كان بعضهم يقتلون المسلمين بحرابهم التي يصوبونها لتخترق صدور المسلمين ويطردونهم من أوطانهم ومساكنهم. كان من الضروري معاقبة هؤلاء وإيقافهم عند حدهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم. كان عليه أن يسدد إليهم ضربة أخيرة لكي يقول لهم: إن القوة ليست بأيديهم بل في يد الحق، وإن الله تعالى سيهب القوة لمن سلك طريق الحق، وستكون القوة كلها في يد الحق إن لم يكن اليوم فغداً، وسيأتي يوم تكون الكلمة فيه للحق، حيث سيسود الحق في القلوب والأفئدة، وسيتم إظهار الاحترام للإنسان وللحقيقة السامية التي أتت بواسطة الإنسان.. كان هذا ما يقاتل من أجله الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكان هناك أناس من بعض الأقوام والقبائل لفتهم الحيرة، فبقوا في الوسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وكان قسم منهم يرغب في الدخول إلى الإسلام، إلا أنهم كانو يخشون ظلم قريش واضطهادها، فبقوا محتارين ومترددين، يرفعون أرجلهم ولكنهم لا يستطيعون الخطو إلى الأمام.

ولكن بعد أن رأى هؤلاء أن القوة أصبحت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن توازن القوى تغير لصالح المدينة اطمأنوا واستطاعوا أن يخطوا تلك الخطوة وهم مطمئنون، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "لا تخافوا ولا تحزنوا، سيجعل الله تعالى لكم فرجاً ومخرجاً إن كنتم مؤمنين، وسيفتح لكم الأبواب والشبابيك على مصاريعها، لكي تصلوا إلى السعادة وإلى الأمن والاطمئنان" هكذا كان الرسول يخاطبهم، ولكن المترددين لم يتأكدوا من هذا إلا في نهاية معركة بدر الكبرى، إذ رأوا كيف أن ميزان القوة قد تغير مكانه، وأن كفار مكة لم يعد في إمكانهم أن يمدوا لهم يد الأذى، فتوجهوا إلى المدينة، إلى مركز المدينة وإلى الرجل العظيم فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى حقيقة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

1. القوى في بدر

جاء في كتب السيرة والمغازي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بدر مع 305 من أتباعه، وبعض الكتب يرتفع بهذا العدد إلى 313 من المقاتلين،[1] ويقول بعضهم إن هذا العدد هو عدد الجنود الذين قاتلوا مع النبي داود عليه السلام ضد جالوت. أجل، كانت عمليات تحويل قدر الإنسان وتاريخه يتم في هذين العهدين، فجيش النور كان يقاتل جيش الظلام، وكانت قمتا وذروتا آل إسحاق وآل إسماعيل تُمثلان حقيقة الحنيفية الموحدة، وكان العدد في كلا الجيشين هو 313.

أجل، فكما قال محيي الدين بن عربي في "فصوص الحِكَم"، فقد كان على رأس أحد الجيشين النبي داود عليه السلام الممثل للخلافة، وعلى رأس الثاني ممثل الشفاعة العظمى وممثل مقام الفردية، الفرد الفريد محمد صلى الله عليه وسلم.

كان في جيش بدر فارسان و30-40 بعيراً، وفي مقابل هذه الإمكانيات القليلة التي كان يملكها المسلمون، ومقابل الجوادين اللذين كانوا يملكونهما، نرى أن المشركين يملكون 200 من الخيول، أي أن مقابل كل فرس للمسلمين كان هناك 100 فرس، أي مقابل كل فارس كان هناك مائة من الفرسان، ومقابل 310 من المحاربين المسلمين كان لدى المشركين ما يقارب الألف من المحاربين أي أن كل مسلم كان يقاتل 3-4 من المشركين. وكانت قريش قد أتت بجيش مجهز بكل ما عرف من قبلهم حتى ذلك الحين من التجهيز للقتال، أي بجيش مجهز بكل أدوات الجيش المعروفة آنذاك وأسلحته، بينما جاء جيش الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يتعاقبون الركوب على عدد قليل من الجمال ليقطعوا مسافة 200 كم. من المفيد معرفة هذه المعلومات، معرفة تلك الظروف من صحراء وحر وصيف، وكون الجيش صائماً، لأن الشهر كان شهر رمضان، وكان عليهم قطع مسافة 200 كم في ذلك الحر الشديد، ثم أتدرون ما الصحراء؟ وأين بدر؟ بعض الذين ذهبوا إلى الحج يعرفون ذلك بعض المعرفة، توجد على الطرق هناك الآن محطات بنـزين، فإذا تخيلت خلو هذه المنطقة، هذه الطرق من هذه المحطات ومن بعض الواحات الصغيرة -وهي حديثة- فلا يبقى أمامك سوى الرمال الممتدة على مد البصر في كل اتجاه، وستسمع أصوات العواصف الرملية وهي تهب من هنا وهناك وتهددك.

والشيء الآخر من الموضوع هو أن المسلمين خرجوا لتهديد قافلة قريش، ولكن إرادة الله كانت متوجهة لأمر آخر، إذ ساق المسلمين إلى ملاقاة جيش قريش. يقول الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ (الأنفال: 7-8).

2. المواجهة

ولأن الله تعالى كان يريد هذا فإنه ساق المسلمين -رغم أن نيتهم كانت شيئا آخر- لكي يلاقوا جيش المشركين وليس قافلتهم. كان المسلمون يرغبون في تعقب القافلة ثم الايقاع بها، واسترداد أموالهم منها، بينما كان الله تعالى يفتح أبواب عهد جديد، ينغلق فيه عهد ظلمهم ونهب أموالهم. أجل، كان على المسلمين أن يوقعوا ضربة قاضية على المشركين، تجعلهم يترنحون تحتها ولا يثوبون إلى رشدهم. لقد انفتح عهد "الحق يعلو ولا يعلى عليه" فالحق يجب أن يغلب ويعلو ولا يعلو عليه شيء. كانت هذه هي مشيئة الله: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن." ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ (التكوير: 29).

لذا، فلا يهم مشيئة أي إنسان آخر، كانت مشيئة الله هي التوجه إلى بدر، وكان رسوله يحدس هذا، وكانت السماء تتطلع بنظرها إلى ذلك اليوم المبارك من شهر رمضان المبارك الذي كان يقترب شيئاً فشيئاً من ليلة القدر. وعندما وصلوا إلى هناك أُمطِرَ المسلمون مطر السكينة، وكان هذا يحمل لهم معنى خاصاً، فقد أطفأ به الغبار وتماسكت به رمال الأرض، وامتلأت الآبار بالمياه، وكأن الملائكة نـزلت مع قطرات ماء المطر. والحقيقة أن الملائكة نـزلت واتخذت هيئة المسلمين وشارتهم لكي يتشبهوا بهم، وكان شعار المسلمين في ذلك اليوم هو "أحد، أحد!"[2] سيهتف الجميع "الله أحد" وسيزأرون بهذه الكلمة. كانت عباءاتهم بيضاء وكأنها الأكفان، لأنهم عندما خرجوا لم يكونوا يعرفون متى وأين سيقابلون أعداءهم، لذا كانوا مستعدين للموت ولاستقبال الحوريات لهم، لذا لبسوا عباءات بيضاء مثل ملابس الحجاج على عرفة، كان منظرهم شيئا يستحق النظر حقاً.

كان هناك من غمره الألم لعدم استطاعته المشاركة في هذا السفر المبارك، من بينهم أنس بن النضر الذي لم يكن يفكر بمفارقة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم حتى في منامه. فاته الاشتراك في هذه المعركة فتقلب على آلام هذا الفراق وعدم المشاركة عاماً كاملاً. وإذا أحببتم قمت بالدعاء لكم أن يرزقكم الله مثل هذا الألم.. الدعاء بقطع العلاقة مع ما سوى الله تعالى لأقول: "اللّهم اشغل قلوبهم وعقولهم بهذا الألم، واطرد النوم من أعينهم." أجل، إن العيش في آلام هذه الأمة المنكوبة البائسة، والتفكر في أحوالها، والتألم لآلامها، دعاء عظيم وتضرع كبير قد يفوق أجره أجر ألف ركعة من الصلاة حتى في مكة المكرمة، وأفضل من الطواف حول الكعبة. أجل، قد لا تكون فتحت كفيك وتضرعت إلى الله تعالى قائلاً: "يا رب!" ولكنك أرقت وتقلبت في الفراش حتى الصباح، وحرمت عيناك النوم وأنت تفكر في أحوال الأمة الإسلامية: "آه يا إخواني في تُرْكِسْتان... آه يا إخوتي في أفغانستان... من يدري أي يد امتدت إلى حجاب أختٍ من أخواتي هناك؟ من يدري أي أخت أو أم من أخواتي أو أمهاتي يتعرضن الآن للاعتداء عليهن؟ إخواني في "جمعة بالا" وفي "كملوجه" وفي "صوفيا (Sofia)" وفي "اسكج"، وإخواني في "قواله"[3] المدينة التي زينها السلاطين العظماء بالجوامع التي لم يعد لها أي أثر، وإخواني في فلسطين وكشمير وفي أماكن أخرى عديدة."

أجل، إن تجرع مثل هذه الآلام يعد دعاءً عظيماً وكبيراً، وعند التوجه إلى الله يقول أهل السماء: "آمين"، وهي لحظة يصل فيها المؤمن بآلامه هذه إلى مرتبة سامية، وتتزين هذه المرتبة أكثر إن صحبتها الأدعية.. تلك اللحظة التي يحس فيها المؤمن بصداع في رأسه، ويضع يده على خاصرته وهو يتلوى من الألم، لأنه يكون آنذاك مع إخوانه الذين يقلق من أجلهم، ومع إخوانه الذين يفكرون مثله، ثم إننا موجودون لهذا الغرض، فإذا كنا لا نستطيع عمل شيء، فبطن الأرض خير لنا من ظهرها. فإذا تم الاعتداء على إخواننا وعلى أمتنا دون أن يكون في يدنا عمل أي شيء لرفع هذا الذل، فبطن الأرض خير لنا من ظهرها.

ذهب الصحابة بمثل هذا الفهم إلى بدر بكل شوق، ذلك لأن الجنة كانت أمامهم وتنتظرهم. وكانت هناك حياة أبدية، والأهم كان هناك رضا الله تعالى، وكانت الملائكة فرحة في ذلك اليوم بالمسلمين الذين كانوا يهتفون: "أحد، أحد!" وتتنـزل من السماء طوابير طوابير، وكأنها تريد تهنئة المسلمين بالنصر في بدر قبل وقوعه وتحتفل به معهم. كان هناك من يستطيع أن يراهم وعلى رؤوسهم عمامات بيضاء وعليهم عباءات بيضاء، لماذا؟ لأن الصحابة كان عليهم عندما قدموا إلى بدر عباءات بيضاء، وكان الشعار الذي يرددونه على ألسنتهم هو: "أحد، أحد!" أجل، كانت الملائكة تُستقبل بهذه الكلمات بينما كان مشركو مكة وشيوخ الكفر فيها آتين وعليهم ملابس سوداء مثل قلوبهم.

من بين الصحابة الذين أتوا إلى بدر بفرح وبهجة كان هناك صحابي جالس تحت شجرة يأكل التمر، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبشرهم ويقول لهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.» فقال: "بخ بخ! أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟" ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.[4]

كانت هذه هي الرغبة العامة والمشتركة لديهم في ذلك اليوم، لذا قدموا إلى بدر في شوق وفي لهفة، وهذه حالة روحية ديناميكية لا يمكن لأي قوة أن تغلبها. بهذه الروح كان هؤلاء قد أُعدوا، إذ لا يمكن مقاتلة مثل هؤلاء الجنود الذين يقبلون على القتال وكأنهم يقبلون على عرس. ذلك لأنهم يستخفون الحياة الدنيا ولا يرجون في الآخرة إلا رضا الله تعالى، لذا لا يمكن مناجزة مثل هذا القوم ولا الوقوف أمامهم.

3. الجيش النظامي

كان من حسنات بدر أن عالم البداوة شهد جيشاً نظامياً للمرة الأولى فلم يعد هناك مكان لغارات النهب والسلب، ذلك لأن على رأس هذا الجيش كان هناك شخص أتى بالنظام للإنسانية وبالقسط. ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * ألاَّ تَطْغَوا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 7-9) تتكرر كلمة الميزان في هذه الآية ثلاث مرات، إذن، فهل هناك أمر طبيعي أكثر من أن يندب الله محمداً عليه الصلاة والسلام كرجل نظام ودقة وتوازن ليكون على رأس الجيش في بدر؟

كانت هناك مفارز استكشاف، ولم يكن عرب الجاهلية يعرفون هذا من قبل، وكان أفراد هذه المفارز من الأفراد الذين أنضجتهم الحياة واكتسبوا فيها خبرة ودراية بحيث كان من الصعب مشاهدة رجال حربٍ في مستواهم. قامت هذه المفارز بما يقارب من عشرين طلعة اكتشاف جابت فيها كل أنحاء البوادي والمناطق. ولم تكن هذه الطلعات مجرد تطبيقات، بل كانت مفارز أنضجتها الحوادث وصقلتها التجارب وقابلوا الأعداء وجهاً لوجه مرات ودخلوا معهم في صدامات ساخنة أحياناً، ووصلوا أحياناً إلى أماكن تجمعهم فأثاروا فيهم الرعب والخوف، ولم يكن باستطاعة من لم يمر بتجاربهم وتدريباتهم أن يقف نداً أمامهم. كانوا على علم جيد بمواقع العدو ومن أين تمر القوافل وأين يوجد من يوصل أخبار العدو إليهم. كانت هذه هي المرة الأولى التي تتشكل فيها هذه المفارز السريعة الحركة في تاريخ البداوة، وربما في تاريخ الإنسانية، وكل ذلك بفضل الرسول صلى الله عليه وسلم، هل تقولون: كيف؟ أقول لكم إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم تكن له تجارب في الأمور العسكرية والاستخبارية قام بتشكيل جيش وطد به أمن الطرق، فأصبح في الإمكان أن يقطع المرء طريقاً طوله مئتا كيلومتر راجلاً أو راكباً على البعير دون مقابلة أي مانع أو عائق. ذلك لأن المفارز والسرايا التي شكلها قامت بما يقرب من عشرين دورية استكشاف في هذه المناطق حتى ذلك الحين. لذا، كان في الإمكان قولهم إن المسير من هنا، وإن الطريق هو هنا وهناك، لذا استطاعوا الوصول إلى بدر في أمن وسلام، وكانت هذه مسـألة مهمة.

4. التوجه إلى موضع الآبار

كانت آبار بدر هي الأماكن التي يحط الجيش فيها رحاله ويستريح، وكان العدو يحاول أيضا احتلال هذه المواضع، يسرع نحوها بفرسانه البالغ عددهم مائتي فارس، ولكن فراسة المؤمنين وسرعتهم الفائقة جعلتهم يسبقونهم في احتلال تلك المواضع. كان موضع بدر هو الموضع الوحيد هناك الذي توجد فيه المياه، واحتل من قبل المسلمين. وكانت مفارز الاستكشاف تتعقب القافلة، فبعدما ينهون عملهم هنا كانوا ينوون التعامل مع القافلة أيضاً، لأن أموالهم التي تركوها في مكة كانت موجودة فيها وكان عليهم أن يستردوها من الغاصبين. كان المؤمنون يخططون لهذا، ولكن إرادة الله تعالى كانت تقضي شيئا آخر، يجب أن يتلقى الكفر ضربة قوية تفقدهم توازنهم فلا يستطيعون بعد ذلك رفع رؤوسهم.

قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه إلى وحدات في اليسار واليمين والوسط، ولم يكن هذا معروفاً آنذاك. كان الوسط مؤلفاً من المهاجرين ومن رؤساء الأنصار الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الموت، فلو بقوا هم وحدهم في الميدان لما رجعوا عن الوعد الذي قطعوه على أنفسهم، كان هؤلاء هم الذين شغلوا وسط الجيش وقلبه.

وضع على رأس قلب الجيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أثبت رشده في مواضع كثيرة، وكذلك سعد بن معاذ رضي الله عنه. كان أحدهما على رأس المهاجرين والآخر على رأس الأنصار.[5]

كان علي رضي الله عنه أعظم الصحابة من زاوية فضله الخاص به. ومع أن هناك قناعة واتفاقاً عاماً على أن الخلفاء الثلاثة الراشدين الذين سبقوه كانوا أفضل منه من ناحية الفضائل العامة، ولكن وضعه الخاص وقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه بأسرار آل ذلك البيت واستمرار نسل الرسول صلى الله عليه وسلم من قبله[6] وكونه تاج جميع الأولياء وقرة أعينهم. من هذه الزاوية لم يكن له مثيل آخر، كان قد أسلم وعمره سبع سنوات فلم يصبه غبار الشرك والكفر. وعندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكابر بني عبد المطلب بعد أن شرح لهم أنه بعث إليهم خاصة وإلى الناس عامة قائلا: «فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟» فلم يقم إليه أحد، فقام علي رضي الله عنه وكان أصغر القوم فقال له الرسول: «أجلسْ» وكرر الرسول دعوته ثلاثا وفي كل مرة يقوم إليه علي رضي الله عنه، وفي الثالثة ضرب رسول الله يده في يد علي رضي الله عنه.[7]

وعندما أصبح عمره سبع عشرة سنة كلفه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيت ليلة الهجرة في فراشه، أي اقترح عليه الموت، فقبله.[8] أجل، لم يتردد علي رضي الله عنه في مثل هذه الأمور أبداً، لذا فقد كان هذا الشاب المملوء رجولة وشجاعة على رأس المهاجرين في بدر. فداك نفسي يا رسـول الله! كم كنت مصيباً في اختيار الرجال!

أما سعد بن معاذ رضي الله عنه فكان أيضا مثال الفضيلة والاستقامة، وكان إخلاصه معلوما من قبل الجميع، وعندما جُرحَ جرح الموت في المعركة كان ما قاله وهو على فراش الموت أبلغ شاهد ودليل على إيمانه، إذ قال وقد شخص ببصره إلى السماء: "اللهم إن كنت قد أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه. وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة"[9] وقد توفي متأثراً بجراحه تلك وعندما شيعه الرسول صلى الله عليه وسلم لمثواه الأخير قال عن جنازة سعد: «اهتز لها عرش الرحمن»[10] فما أصوب هذا الانتخاب وما أعظم هذا الاختيار!

كان هؤلاء هم الذين يسيطرون على قلب الجيش ووسطه، فإذا كان القائد يفضل الموت على العيش بذل فهل يفر جنوده؟ وعندما يضحي القائد برأسه ألا يضحي الجنود برؤوسهم؟ ثم إن الجنود أتوا إلى هناك وهم يبحثون عن الشهادة ويفتشون عنها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجد في هذا القلب أي في المركز وفي الوسط محاطاً بمثل هؤلاء الجنود الذين أصبحوا له درعاً لا يصل إليه أحد، كلا لن يصل إليه أحد حتى يدوسوا على جثث كل هؤلاء الجنود.

كان إذن، على رأس مثل هذا القلب، وكان قد أعطى الراية إلى مصعب بن عمير،[11] فما أروع هذا الاختيار! في معركة أُحد قطعت اليد اليمنى لمصعب فأخذ الراية بيسراه فقطعت يسراه فقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ﴾ (آل عمران: 144) وحافظ على الراية حتى استشهد[12].

كان مصعب يقف في الوسط وراية بيضاء تخفق في يده.. كانت الميمنة والميسرة قد أخذتا مكانهما بانتظام، كانت القوة الأمامية جاهزة تنتظر الأوامر، والرديف في الخلف وعلى رأسهم قيس بن أبي سعد رضي الله عنه، فلو قمت بقلع أظافرهم ظفراً ظفراً لما تأوه أحدهم، كانوا بهذا التصميم والقوة والمقاومة.

كان جيش المسلمين يمثل نظاماً لم يشاهده أرباب القتال حتى ذلك الحين ولم يعرفه أحد من قبل، وكان هذا هو الأمر الذي قصم ظهر قريش. كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى بنظام جديد ليعلن لهم موت الأنظمة القديمة العفنة وأنها دون فائدة.. كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى بنظام جديد، أما هم فكانوا مقيدين بالنظام القديم، حيث كانت الفوضى سائدة في صفوفهم. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على رأس جنده مما أعطى المسلمين قوة معنوية إضافية وقوة ديناميكية إضافية.. لقد سبق وأن عاهدوه قائلين: "والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أُزْرَنا."[13]

إن المهم جداً قيام الإمام بنفث الأمن والثقة في نفوس رعيته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بهذا على أحسن وجه، لقد قال لهم: «اَلْمَحْيَا مَحْيَاكم والممات مماتكم.»[14]

كانت كلماته هذه ترن في أسماعهم، وكان يتجول بينهم ويقوم في وسطهم، ثم إنهم جاءوا إلى هناك وهم يتعاقبون الركوب على الجمال (ويح نفسي ليته داس على وجهي ولم يدس على التـراب)، وركب معه اثنان على جمله حتى وصولهم إلى بـدر.. كانا حزينين ويقولان له: "اركب حتى نمشي عنك" ولكن الرسـول صلى الله عليه وسلم كان يقول لهما: «ما أنتما بأقوى مني، ولا أنـا بأغنى عن الأجـر منكما»[15] كان أمير الأمراء يقول هـذا.. إنه إنسان بين الناس، يقوم ويجلس معهم ولا يفارقهم.. يجلس معهم ويأكل من الطعام نفسه الـذي يأكلونه ويشـاركهم في كل شـيء ولا يتميز عنهم.

أصبحت كلمة "المساواة" تتردد كثيراً على ألسنة الناس بعد قيام الثورة الفرنسية، فهل رأى الناس منذ ذلك اليوم مساواة؟ لم يعرف هذه المساواة سوى الإنسان الذي عاش في عهد النبوة وفي عهد الخلفاء الراشدين وذلك بفضل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

لقد فتحت السماء أبوابها له في أحلك أيامه واحتضنته وحفت به الملائكة، وكما قال الشاعر"نظامي" [16]:

لقد أصبحت أنصاف الأهلة    حدوات تحت حوافر جواده

قالت له الجنة: "لا تذهب، ابق هنا" ولكنه رجع إلى وسط الناس. يذكر الولي الكبير "عبد القدوس" هذه الحادثة فيقول: "وصل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مقام لم يصله أحد، وأنا أقسم بالله لو أنني صعدت إلى تلك المقامات لما رجعت منها إلى الدنيا أبداً"، ويعلق على هذا الكلام ولي آخر فيقول: "هذه هي المسافة التي تفصل بين النبي والولي والتي لايمكن قطعها أبداً".. كيف يمكن قطع هذه المسافة؟ إنه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

أجل، فمع انه في مثل هذه المنـزلة لدى الله سبحانه وتعالى فهو يرى نفسه إنساناً بين الناس ويحب أن يكون بينهم. لقد شاهدت الإنسانية المساواة بواسطته، ولو وصلت الإنسانية إليها مرة أخرى فسيكون أيضا بفضله، وهذا الانتظار حقيقة نابعة من طبيعة علم الحقوق نفسه. هكذا كانت بادية العرب تنظر إلى هذا الجيش من جانبه هذا، وكان هذا شرفاً كبيراً بالنسبة للبادية.

قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتنظيم الجيش بنفسه وعين له مواضعه ثم حفر بئراً كبيرة في وسط الموضع حيث ملئت بماء يكفي الجيش حتى انتهاء المعركة، ثم قام بسد جميع الآبار الأخرى،[17] إذن، فسيأتي العدو دون تهيؤ معتمداً على وجود الآبار هناك، وعندما يرون ما حل بالآبار سيحسون بأن ظهرهم قد انقصم، وهذا ما حصل فعلاً.

وكما كان نظام الجيش جيداً، كان أسلوب حركته وقتاله جيداً أيضاً، فالجنود كانوا يعرفون جيداً أين يستعملون النبال وأين يستعلمون الرماح وأين يستعملون السيوف ومتى تدخل ميمنة الجيش وميسرته المعركة. ومتى تتدخل القوة الموجودة في الخلف.. كل هذه الأمور كانت مؤقتة توقيتاً ممتازاً.

أما المكان الذي أقام فيه الرسول صلى الله عليه وسلم خيمته أو عريشه فقد اختير بدقة كبيرة تليق بقائد عظيم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم. إذ كان هذا الموضع يشرف على ساحة المعركة إشرافاً جيداً، وكان يشرف منه على الجناحين الأيمن والأيسر وعلى القوة خلفهما. وكان بإمكانه من هذا المكان الاتصال بالجند وإيصال الأوامر إليهم بسرعة للسيطرة التّامّة على مجريات القتال.

كان كل شيء قد تم وستبدأ الحرب بعد قليل وسينتصر المسلمون على أعدائهم الذين يفوقونهم بـثلاثة أضعاف ويلحقون بهم هزيمة نكراء بخسائر قليلة تبلغ أربعة عشر شهيداً فقط، وكما ذكرنا سابقاً فقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين شعار المعركة وهو الهتاف بـ "أحد، أحد"، وأحد اسم من أسماء الله الحسنى لا يجوز تسمية أي شخص بهذا الإسم، والأحد هو الواحد في ذاته ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ﴾ (الإخلاص: 1)، فالأحد هنا إشارة إلى توحيد الألوهية وإلى توحيد الربوبية كذلك. فمثنى الواحد هو اثنان، ولكن لا يوجد مثنى للأحد فالأحد رقم فريد بين الأرقام لا يوجد له ثان أو ثالث، أي إن الله واحد أحد لا ثاني له.

كان الشعار في ذلك اليوم هو "أحد أحد"، وكلما هتفوا بهذا الشعار كأن صوتاً يأتيهم من وراء الغيب يقول لهم: لبيكم عبادي. فإذا كان هذا هو حكمة اختيار هذا الشعار فالحكمة الثانية هي أن أهل مكة كانوا يجهلون حتى ذلك الحين إطلاق الشعارات. وكان المؤمنون بفضل هتافهم بهذا الشعار يشعرون برابطة أقوى من جانب ومن جانب آخر كانوا يلقون الرعب في قلوب المشركين وهم يسمعون هذا الهتاف المدوي من أناس عليهم ملابس بيضاء كأنها الأكفان. كان المؤمنون يبحثون عن الموت وعن الاستشهاد في سبيل الله.. كان هذا هو غايتهم الوحيدة.

5. المبارزة الأولى

ومع بقاء التنظيم العام، والاستيراتيجية العامة محفوظة فإن القرارات كانت تصدر تباعاً حول كل تكتيك جديد، وكانت كلها موفقة.

في البداية أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة مبارزين، كان كلهم من الأنصار ومن الأفراد المهمين والمشتاقين إلى الشهادة، فلو تصدى لهم عنترة أو هرقل لما تردد أحدهم في مبارزته ومقاتلته. ولكن قريشا أبت بغرور وبكبرياء وقالت: أخرج لنا يا محمد أكفاءنا من قومنا. كان هذا هو الغرور المهلك بعينه، وهو ما كان يتوقعه الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، ومع أننا لا ندري، فقد يكون هذا هو تكتيكه؛ فكتب السير لا تذكر هذا، ولكن مما لا شك فيه أن الأشخاص البارزين كانوا معيين في ذهنه فقال: «قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا علي!» كان هؤلاء الأشخاص الثلاثة يعادل كل منهم جيشاً.. كان اثنان منهما ابني عم له، والثالث عمه، أي إن أول من أرسله ليدق أبواب الموت كان أقرب الناس إليه رحماً ونسباً. وخرج ثلاثة مبارزين من بين الطرف الآخر، عُتبة وشيبة والوليد بن عُتبة. كان العدو على أعتاب هزة كبيرة، كان هؤلاء من أقوى رؤساء القبائل.. وعندما سقط الأخوان وابنهما صرعى بالسيف في وسط بدر هبطت الروح المعنوية لدى صفوف العدو. وكان هذا أولى علامات انجراره إلى الهزيمة. أما عبيدة فقد نال من أجل هذه المبارزة جراحا شديدة فأخلي من ساحة المبارزة وذهبوا به إلى ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم المرشد إلى أبواب الجنة حيث أسلم الروح قريباً منه.[18]

هبطت الروح المعنوية لدى الأعداء بعد قتل عُتبة وشيبة والوليد، فقد كان هناك أناس قدموا إلى المعركة بإلحاح من هؤلاء الثلاثة. فكان موت هؤلاء الثلاثة سبب رعب وغيظ وفوضى لدى العدو.

6. غايات متباينة

بدأ كل واحد ينعق بشيء مختلف، إذ اختل النظام وسادت الفوضى، وهذا جعلهم هدفاً لنبال المسلمين ورماحهم ثم لسيوفهم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه إليهم ضربة أطارت صوابهم فلم يعودوا يعرفون ماذا يفعلون، ثم إنهم عندما أتوا إلى بدر لم يأتوا إليه في سبيل مبدأ أو فكر أو مُثل معينة، بل جاءوا يحدوهم الحقد والغضب، بينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدر في سبيل فكرة سامية وهدف نبيل، كان هدفه هو إعلاء كلمة الله. أجل، إن المبدأ مهم جداً، لم يكن أبو جهل وشيبة وعُتبة وابن أبي مُعيط وأُمية بن خَلَف يعرفون لماذا يقاتلون، لقد جاءوا بدافع الحقد والغيظ ليقتلوا الناس هناك، وكانوا يعتقدون أنهم بعملهم هذا يعلون من شرف الكعبة ويزيدون من منـزلتهم ومكانتهم في أعين الناس، لم يكن لهم أي مكسب بالنسبة للماضي، وما كان بالإمكان أن يكون، ذلك لأنهم أتوا إلى هناك بدافع الحقد والغيظ والغضب.

أما المؤمنون فقد كانوا هناك من أجل تحقيق هدف سامٍ، وهو إعلاء كلمة الله تعالى ونشرها في أرجاء الأرض. كانت القلوب تخفق بهذه المشاعر وترى أن الموت يهون من أجل تحقيق هذه الغاية، وذلك لأنهم كانوا يُستشهدون في سبيل الله، لذا كانوا ذاهبين للقائه، ومن يلق الله تعالى ويصل إليه لا يخسر شيئاً، بل يكسب الشيء الكثير. كان كل مؤمن يقاتل بهذه العقيدة ويستهين بالحياة بهذه العقيدة، بينما كان الطرف المعادي يرى أن الحياة أهم شيء ومعقد جميع آمالهم.

كل همهم أن تطول حياتهم هذه. ولو تحقق انتصارهم في بدر لقام أبو جهل يوفى بنذره وهو أن يشرب الخمر ويرقص الراقصات ويلهو ويطرب،[19] بينما صلى المسلمون هناك ودعوا الله وتضرعوا إليه وبحثوا عن الوسائل والطرق التي تقربهم إلى الله تعالى.

كان هذا هو الفرق بين الجمعين. فأحدهما كان وكأنه يحلق في السماء والاطمئنان يلفه، والآخر قد هوى إلى أخفض قعر في الدنيا وهو يتلوى من الضيق والاضطراب.

7. فرعون الأمة يصرع

يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع أحدٍ منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم وما حاجتك إليه؟ قال: "أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا" فتعجبت، لذلك فعمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: «أيكما قتله؟» قال كل منهما: أنا قتلته قال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، قال فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال: «كلاهما قتله»[20] وهكذا سقط فرعون هذه الأمة قتيلاً. أما الغلامان فهما معاذ بن عمرو بن الجموح والآخر معاذ بن عفراء. وفي رواية هما إبنا عفراء رضي الله عنها.

لقد اجتازوا مرحلة الجاهلية إلى الطرف الآخر، وفي أُحد لقوا ما صبوا إليه إذ لقوا الله تعالى. والحقيقة أنهم عندما أتوا إلى بدر أتوا لتحقيق مثل هذه الغاية السامية. والخلاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلن الحرب على الذين ناصبوه العداء طوال دعوته، ومدوا يد الإساءة وخاصموا الحق والحقيقة والعلم والعرفان، والأهم من ذلك أنهم خاصموا الإيمان والإسلام. ولكنه في أثناء نضاله معهم كان يحسب خطواته جيداً فلا يخطو الا بحساب وبتوازن وبحكمة فلا يقع في أي هفوة أو خطأ، فكأنه جاء إلى بدر خمسين مرة وحارب العدو هناك خمسين مرة، وكأنه طبق خطته واستراتيجيته هناك خمسين مرة، لأنه لم يظهر هناك أي خطأ ولا أي هفوة، وكأنه ذهب إلى هناك في نـزهة، وهناك انتصر بعون الله ورعايته وتوفيقه.

كل نصر سيؤدي إلى نصر آخر، أي كان قد دخل إلى دائرة مثمرة (هذا ضد تعبير دائرة مفرغة) هنا يؤدي الخير إلى خير آخر، بينما في الدائرة المفرغة يؤدي الشر إلى شر آخر، والتعقيد يؤدي إلى تعقيد آخر، والأخطاء تسلمك إلى أخطاء أخرى، وهكذا يستمر الأمر... أجل، لقد هُيئت الأسلحة وتمت التعبئة بشكل جيد، لذا فلا بد أن تحصل على نتائج جيدة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الخير لا يأتي إلا بالخير»[21] وكانت معركة بدر خيراً خالصاً.. خيراً للقلب وخيراً للفكر إذ فتح الله أبواب ألف خير للذين حملوا أرواحهم على أكفهم في تلك المعركة فكأنه قال لهم: اسلكوا أي طريق تشاؤن فسيكون النصر حليفكم.

8. ثم الهزيمة

انقصم ظهر المشركين من هذه الضربة التي تلقوها من الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر هذا الرعب عندهم مدة طويلة، ولولا أن بعض المشركين من أنصار أبي جهل وأمثاله قاموا بإثارتهم وتوجيه دعاية مكثفة بينهم لما تجرأ أحد منهم للخروج لقتال المسلمين يوم أُحد، وما كان خروج قريش للقتال يوم أُحد إلا بباعث من الانتقام والحقد، لقد بدأوا يقولون: لابد أن نقاتلهم مرة أخرى مهما يكن الأمر، وحقد وإصرار هند بنت عُتبة مثال جيد على هذا، إذ كانت تقول لابي سفيان: لقد قتل أبي وعمي وأخي وليد وأنت قاعد في البيت كالنساء، وبدلاً من البقاء مع امرأة فإني أفضل الذهاب إلى بيت أمي. كانت النساء يبكين كل يوم ويشققن ثيابهن ويلطمن وجوههن ويثرن الرجال. وهذه إلاثارة التي استمرت عاماً كاملاً دفعت المشركين إلى الخروج لمقاتلة المسلمين في أُحد. وسنعود إلى هذا الموضوع فيما بعد.

أجل، لقد أنـزل الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر ضربة قوية على رؤوسهم بحيث أنهم ما عادوا يفكرون في مواجهة المسلمين، ولكن لم يكن هناك شيء يستطيع أن يهدئ الحقد والغيظ في قلوبهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسدى إليهم بعد معركة بدر جميلاً ومعروفاً ليداوي نفوسهم المجروحة وكرامتهم المهدورة، فمثلا كان بمقدوره أن يأمر بقطع رؤوس جميع الأسرى الذين اقتيدوا إليه والذين أساءوا إلى المسلمين إساءات كبيرة وآذوهم إيذاءاً شديداً، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل أن يمن عليهم وأن يعفو عنهم. وقال: لنعف عن هؤلاء، وأخذ الفدية من بعضهم، وطلب من بعضهم القيام بتعليم عشرة من صبيان أهل المدينة القراءة والكتابة.

9. أهداف العفو عن الأسرى

أولاً: كان هذا معروفاً أسداه النبي صلى الله عليه وسلم لهم. فطلب الفدية عن هؤلاء الأسرى ساقهم إلى قبول الفدية بكل سرور، ثم إن ما أعطوه لم يكن إلا جزءاً من أموال المسلمين التي بقيت في مكة والتي اغتصبوها منهم.

ثانيا: كانت نسبة من يقرأون ويكتبون في المدينة حتى ذلك الحين نسبة واطئة، بينما كان أهل المدينة مرشحين لأن يلعبوا دوراً مهماً في تبليغ العلم والدين، لذا كانت حاجتهم إلى تعلم القراءة والكتابة أكثر من غيرهم. ثم إن الفرق الثقافي بين أهل مكة وأهل المدينة كان سينقلب لصالح أهل المدينة بهذه الوسيلة.

ثالثاً: إن الذين سيبقون في المدينة لتعليم القراءة والكتابة سيجدون فرصة للتعرف بالإسلام عن قرب، وعندما سيعودون إلى مكة سيكون كل واحد منهم داعياً إلى الله ورسوله في بيته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع بمكرمته هذه وتسامحه معهم أن يفتح قلوبهم.

تأملوا مثلاً ابن هشام وهو أخو أبي جهل فإنه لم يشترك في أي معركة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إسلامه، ذلك لأنه رأى من كرم الرسول صلى الله عليه وسلم معه وتسامحه ومروءته ما جعله يخجل من أشهار السلاح في وجهه، وكان هذا الأمر عاماً تقريباً بالنسبة للجميع.

رابعاً: إن أهل هؤلاء الأسرى وأقرباءهم الذين قطعوا الأمل في حياة هؤلاء الأسرى عندما رأوهم والتقوا بهم وهم سالمون لم يتعرض أحد إليهم بأي أذى سرى إليهم شعور العرفان بالجميل، لأنهم كانوا يعرفون جيداً مدى الأذى الذي ألحقوه سابقاً بالمسلمين، ومع كل هذا فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف مع كبار قريش بهذا اللين وبهذه المروءة.. هذا اللين والمروءة التي لم يكن يظهرها المكي حتى لأولاده. وقد أدت هذه المروءة التي أبداها الرسول صلى الله عليه وسلم نحو الأسرى إلى فتح قلوب الكثيرين من أهل مكة وجيرانهم من المتفقين معهم إلى درجة لو أن أبا جهل لم يقتل في المعركة لما بقي حتى في بيته أحد من الكفار غيره، لأن كل شخص حتى في ذلك البيت لان قلبه حتى أبو سفيان -وكان من أشد بني أُمَيّة على الإسلام- بدأ يتصرف بمرونة ولين على الرغم من كونه زوجاً للمرأة التي فقدت أباها وعمها وأخاها. لهذا نراه لم يخرج إلى بدر الآخرة على الرغم من إعطائه قرار الخروج هذا بعد معركة أُحد. فلولا حصول هذه المرونة واللين لكان من المحتمل حدوث شرور كثيرة.

أجل، لقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بمعركة بدر إلى طريق خير، لأن من ملك القوة آنذاك كان يظلم ويفترس الآخرين كالوحش. وعندما تهيأت الفرصة لهند لاكت كبد حمزة وكأنها من القبائل الآكلة للحوم البشر، ولكنها لم تستطع أن تأكلها[22] ولو تيسر لها ذلك في بدر لما ترددت في فعل الشيء نفسه. ولكن المسلمين عندما تيسر لهم النصر في بدر أعطوا أمثلة سامية حول كيفية التصرف الإنساني. وبينما كان الباقون يصبحون هدفاً للنقمة في مثل هذه المواضع كان المسلمون يتألفون القلوب. وكان هذا نتيجة فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن نتناول الجانب العسكري الممتاز للرسول صلى الله عليه وسلم كبعد من أبعاد فطنته هذه.

10. أسباب النصر

إذا نظرنا إلى انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر من ناحية الأسباب فإننا نستطيع أن نقول بأنها كانت مرتبطة بما يأتي:

قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتعبئة عسكرية جيدة، فقد جاء إلى بدر بجيش مرتبط بقائد واحد يتحرك بموجب أوامره وإرشاداته، وكان هذا الجيش يملك روحاً معنوية عالية جداً وإيماناً قوياً وراسخاً. بهذا الإيمان كانوا يشاهدون بساتين الجنة وهم في الارض، حتى أنهم لم يكونوا متأكدين وهم يمشون في قمم تلال بدر أهم يدوسون على تل في بدر أم على تل في الجنة.. بمثل هذا الإيمان ذهبوا إلى بدر. ثم إن الجنود كانوا مشبعين بروح الطاعة للأوامر الصادرة إليهم، فلو أُطيحَ برؤوسهم لما أقدموا على عمل دون أن يتلقوا أمراً بذلك. فالكل كانوا ينتظرون الأوامر من الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان صدور الأوامر من مركز واحد شيئاً مهماً في أثناء سياق المعركة، وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر فجعل صلاحية إصدار الأوامر مركزية وعلى أسس ثابتة ومتينة. ثم إنه أنشأ شبكة استخبارات جيدة، فمن موضع خيمته كان يستطيع أن يشرف على المنطقة كلها، وكان ينـزل أحياناً إلى وسط الجند يتفقدهم، وعندما يشاهد أي ضعف أو خلل في أي موضع يذهب إليه ليعالجه. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لقد رأيتُنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو"[23] صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قريباً من العدو ولكن كان من يتجرأ للاقتراب منه من الأعداء يتهاوى وكأنه اصطدم بسور قوي من اللحم والعظم.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتجول بين جنده ويشجعهم ويرفع روحهم المعنوية ويقول لهم بأن الله تعالى معهم وأنه سيؤيدهم بنصره. بهذه الروح المعنوية العالية وبهذه الطاعة التامة والانقياد الكامل كان الجميع يتصرفون وكأنهم ذاهبون إلى الجنة.

ثم إن جيش المسلمين كان منظماً بالقياس إلى ظروف وأحوال ذلك اليوم، فقد تمت تعبئته جيداً. فهناك الجناح الأيمن والجناح الأيسر ومركز الجيش والقوة الاحتياطية. وكل هذه الأمور التي اهتم بها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت هي خلاصة العلم العسكري آنذاك. وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم جميع هذه الأمور ووضعها واستعملها في أماكنها الصحيحة. فمثلاً موضوع الطاعة، فالجندية هي الطاعة وهو أول ما يتعلمه الجندي المبتدئ في الجيش لأنها مهمة جداً، فإذا قيل للجندي: ازحف! زحف، وإذا قيل له: قم! قام. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم جنوده الطاعة قبل قدومهم إلى بدر، ثم نصب خيمة القيادة فوق تل من تلال بدر حيث يشرف منها على كل شيء، ويصدر منها الأوامر التي سرعان ما يطيعها الجميع. ثم إنه نفث في قلوب جنده إيماناً لا يتزعزع بحيث أن هذه المعركة كانت معركة بين الذين يستهينون بالحياة وبين الذين يتشبثون بها ويحبونها. أحدهما يرغب في قطف الورود من بستان الزهور، والثاني يرغب في سقي بستان الورود بدمه، يقول أحدهما:

"يكفي حملي لعبء هذه الحياة، فمتى تفتح أبواب الجنة لأدخلها وأتجول في ربوعها"، أما الآخر فيقول: "ليتني أرجع سالماً لكي أعب الخمر عباًّ وأشاهد رقص الراقصات وأتلذذ بلذائذ هذه الحياة." أجل، كانت المعركة بين فئتين.. فئة تستهين بالحياة، وفئة تعبد الحياة، كما كانت المعركة بين جماعة منظمة وبين مجموعة من الأشخاص غير المنظمين، وكانت نتيجة المعركة معروفة منذ بدايتها، لإنها كانت بين النظام وبين الفوضى. ففي صف المسلمين ما إن تحدث ثغرة في موضع ما حتى يسرع الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ويقوي ذلك الموضع، وكان المسلمون عندما يرون الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم تزيد شجاعتهم وتضحيتهم فلا تلبث أن تنغلق تلك الثغرة.

ولا شك أن من صفات وميزات أصحاب الدعوات قيامهم بتطبيق خطط مختلفة تكون ملائمة للظروف المستجدة دوماً. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهيئ خططه في فكره بأدق تفاصيلها دون أن ينسى أي تفصيل، ولم يكن يعرف أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم وخططه وكيفية تصرفه سوى أقرب قواده إليه. بينما كان العدو يحارب بأسلوب فوضوي بعكس جيش الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يعرف ماذا يفعل بالضبط وأين يوجه نباله وإلى أين يرمي رماحه. أجل، إن الاستيراتيجية مهمة جداً.

11. ترك الجبهة ليس من شيمة المؤمن

وشيء آخر مهم وهو عدم قيام أي جندي بأي تصرف شخصي، بل عليه البقاء في موضعه وإن كان ذلك يعني الموت إلى أن يأتيه أمر آخر منه صلى الله عليه وسلم حتى وإن كانت الهزيمة مقدرة عليه، فالقرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ اْلأَدْبَارَ﴾ (الأنفال: 15).

أي يجب عدم الفرار وإن بقي في الجيش شخص واحد فقط، وأنا كلما تذكرت هزيمة "فيينا (Wien)" أحسست بألم حارق في أضلعي وأقول لنفسي ليت جنود "قره مصطفى باشا" ماتوا هناك حتى آخر رجل فيهم ولم ينسحبوا، فمن يدري فلعل الهزيمة.. كانت تنقلب إلى نصر وتسقط التفاحة الحمراء[24] التي لم نستطع قطفها طوال التاريخ. ولكن عندما أصبحت الحياة حلوة في أعين الجنود، والموت شيئاً مرعباً، وتراجع الإيمان والشوق إلى الجنة إلى المرتبة الثانية أو الثالثة عندهم، والأهم من ذلك عندما تكبر الدنيا في عين المؤمن وتكون مهمة عنده، يسلب الله تعالى المهابة من المؤمنين، وعندما يخسر المؤمن مهابته يستطيع الكافر أن يغلبه وأن يسخر منه ويخدعه. [25]

لا يليق بالمؤمن الهروب من ساحة القتال، قد يقطع هناك إرباً إرباً ولكن لا يمكن له ولا يليق به الهروب، والتاريخ مليئ بآلاف الأمثلة على هذا، وكأن جميع هؤلاء تعلموا الشجاعة والرجولة من أسود بدر، ومعركة بدر مهمة جداً من ناحية أنها أصبحت مثالاً وأنموذجاً للمستقبل.

في معركة اليرموك حارب 20 ألف بطل أمام 201 ألف من الجيش البيزنطي، كانت هذه معركة مشابهة لبدر، وقد تم النصر بالروح وبالمشاعر نفسها التي كانت سائدة في بدر. تأملوا مثلاً حال بطل واحد من بين آلاف الأبطال، إنه قَبّاث بن أَشْيَم، قطعت رجل هذا البطل في المعركة في وقت الظهر بضربة سيف ولكنه لم يحس بذلك، وعندما تم النصر للمؤمنين في وقت العصر أراد هذا البطل الترجل عن جواده، وعندما مد رجله كالمعتاد لينـزل وقع على الأرض، وعندما حاول أن ينهض أدرك ما جرى له.. كانت رجله قد سبقته إلى الجنة... وبعد سنوات عندما أراد حفيده أن يعرف نفسه للخليفة عمر بن عبد العزيز قال له: "أيها الخليفة! إنني حفيد الذي فقد رجله في الظهيرة ولم يحس بفقدها حتى العصر."

كانوا يقاتلون وهم لا يهتمون لا بالدنيا ولا بنعيم الآخرة، بل كانوا -مثلهم مثل الشاعر المتصوف يونس أمره- يقولون وقلوبهم متجهة لله وحده: “أنت ضالتنا... أنت!”

الهرب في أثناء الحرب جريمة كبرى، وقد أعطى الله تعالى هنا مقياساً محدداً يحدد بموجبه ويقيم به الانسحاب نحو الخلف ويمكن به فقط أن يكون جائزاً، ولا يستطيع أحد أن يفسر الانسحاب والتراجع تفسيراً ذاتياً وشخصياً وحسب هواه، والآية التالية هي التي رسمت إطار هذا الأمر: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَد بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الأنفال: 16).

وعندما رجع أبطال معركة مؤتة إلى المدينة لم يستطيعوا مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا خجلين منه، إذ كانوا يعدون أنفسهم وكأنهم هربوا من المعركة لذا، كانوا يرغبون في الاختباء عنه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم طيب خاطرهم واحتضنهم وسلى نفوسهم بتلاوة الآية الكريمة السابقة. وعندما قال له بعض الصحابة: نحن الفرارون، أقبل إليهم وقال: «لا بل أنتم العكّارون[26][27]

أجل، إن كان ولا بد من التراجع والانسحاب فيجب أن يتم ذلك بأمر من القائد، وهذا ما تم في معركة مؤتة.

وشيء آخر مهم في هذا الخصوص وهو أن يكون القائد بين جنوده، والتاريخ يشهد بأنه متى ما كان رأس الدولة المسلمة على رأس جيش انتصر مثل هذا الجيش في أغلب الأحوال، ومتى ما قعد السلاطين في القصور -كما حدث في بعض عهود الدولة العثمانية- بدأ التحلل والتسيب والتراجع، وقد قضى السلطان سليمان القانوني مدة حكمه البالغة 46 سنة على ظهر جواده يتنقل من جبهة قتال إلى أخرى، وكان هذا من أهم أسباب احتفاظه بالدولة في القمة بعد معونة الله تعالى له.

لقد حاولنا حتى الآن شرح أن الانتصارات التي تمت في بدر وفي غيرها من المعارك والحروب إنما تمت بالاتكال على الله والثقة به، واتخاذ جميع الأسباب والعوامل الإيجابية ورعايتها. أجل، فبعد قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع أنواع الأدعية الفعلية[28] فتح كفيه وتضرع إلى ربه تضرعاً حاراً، وعندما اتحدت هذه الأدعية وهب الله تعالى للمؤمنين نصراً مؤزراً.

حاولنا أن ننقل لكم -وإن لم يكن بشكل مفصل وعميق- معركة بدر من كتب المغازي والسير.

وقد ظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رجلاً عسكرياً رائعاً، إذ استطاع بحفنة من أبطاله المغاوير الوصول إلى الأهداف التي عينها له مولاه وربه دون أن يقع في أي هفوة أو تقصير أو خطأ، وعلى جبين نجاحه وانتصاره نقرأ على الدوام حقيقة أن "محمد رسول الله". لماذا كان منتصراً؟ لأنه كان رسولاً من عند الله تعالى، كان عسكرياً جيداً لأن الله تعالى رباه وعلمه. أجل، كان يتلقى تعليمه ودروسه من الله تعالى، لأنه كان مكلفاً بأداء مهمة خاصة، وكانت فطنته الكبيرة من أكبر النعم التي أنعمها الله تعالى عليه، والتي كان يقيّم بها ويفهم بها بكل دقة جميع الأوامر الإلهية. وهذه الفطنة والعقل الكبير والمذهل هو العقل الذي يفهم أوامر الله تعالى ومشيئته فهماً كاملاً لا قصور فيه. أجل، إن فخر الإنسانية هو الشخص الوحيد الذي فهم الحقائق الموجودة في كتاب الكون بشكل متسق مع القرآن الذي هو كتاب الله وأوامره.

فكل ما قاله القرآن هو نفس ما يقوله كتاب الكون الذي ظهر بقدرة الله وإرادته وتخطيطه ومشيئته، ولم يكن هناك مثيل للرسول صلى الله عليه وسلم في التوفيق بين هذين الكتابين، أو بتعبير أصح فهمُ هذا التوفيق والتناسق بينهما وتطبيقه في الحياة.

ب- معركة أُحد: المرتقى الصعب

والآن لنرجع بعناية الله تعالى إلى أُحد لنتابع ذلك القائد الرائع والإنسان الكبير والنبي الذي لا مثيل له من زاوية معركة أُحد، والفطنة والفراسة التي أبداها هناك.

في أُحد تميز المؤمن عن المنافق والوفي عن الجاحد والشجاع عن اللئيم وعن الجبان، والمرتبطون بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتباطاً حقيقياً عن الذين في قلوبهم مرض.. معركة أُحد هذه سيتم ذكرها على الدوام بنوع من الأسى.

في أحد الأيام وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يعتلي سفح جبل أُحد ألقى إليه نظرة طويلة ثم قال: «أُحد جبل يحبنا ونحبه»[29] وكأن هذا القول دفاع عن جبل أُحد يهب علينا من وراء أربعة عشر قرناً لمن يحمل في قلبه أي شعور بالأسى نحو جبل أُحد. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لايريد منا إسناد الشؤم أو عدم الوفاء لجبل أُحد، لذا قال هذا القول ليكون برداً وسلاماً للقلوب التي يحيط الحزن بها للجرح الذي أصاب كرامة المسلمين في هذه المعركة، وهو يريد منا البحث عن أسباب أخرى لتلك النتيجة. أجل، لم تجرح كرامة المسلمين في العهد النبوي في أي معركة مثلما جرحت في تلك المعركة، هذا صحيح ولكن السبب في هذا لم يكن جبل أُحد، بل إن جبل أُحد حفظ المسلمين وحماهم عندما أحاط بهم الذهول والاضطراب، احتمى المسلمون بجبل أُحد وتخلصوا بذلك من هزيمة تامة، هذا من زاوية الأسباب.

لقد كان السبب الحقيقي للهزة المؤقتة التي أصابت المسلمين يكمن في انسحاب بعض المنافقين من الجيش منذ البداية، وما أدى إليه هذا الانسحاب من أثر سيء في الروح المعنوية للمسلمين، ثم عدم إلتزام بعض الصحابة بالأوامر بالمستوى اللائق بهم، وظهور ميل عندهم إلى جمع الغنائم حتى وإن كان هذا الميل مشروعاً. ومهما يكن فلا شك أن هزة أصابت المسلمين يوم أُحد، ولكن ربط هذه الهزة بجبل أُحد لم يكن صحيحاً، لذا عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبه لجبل أُحد لكي يزيل هذا الوهم من الأذهان.

والآن لنتناول موضوع ماذا حدث وكيف تم المجيء إلى أُحد وما هي الأسباب التي أدت إلى هذه المعركة، وهل كان من الممكن اجتنابها؟ لنبدأ أولاً بتحليل معركة أُحد لكي تبين كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائداً عسكرياً لا نظير له حتى في هذه المعركة التي بدت في نتيجتها وكأنها كانت معركة خاسرة.

لقد أدت هزيمة معركة بدر إلى إثارة حقد مشركي مكة وغيظهم ولاسـيما عند أولئك الذين قُتل أقرباؤهم أو أبناؤهم، فهؤلاء كانوا يثيرون أهل مكة على الدوام ويحرضونهم على الانتقام وعلى أخـذ الثأر.

ولم تكن جهود الإثارة منحصرة في مكة فقط، فقد كانت هناك جهود مبذولة في المدينة أيضا في هذا الاتجاه بوساطة كعب بن أشرف، وكان هذا يهودياً يحاول إلقاء الفتنة بين المؤمنين بأشعاره التي يشبب بها بنساء المسلمين ويفتري عليهن، بل إنه لم يتورع من مد لسانه القذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، ومع أن المسلمين كانوا يحسون بضيق شديد من هذا الوضع إلا أنهم كانوا دائماً يجابَهون بصبر الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه ونظرته البعيدة.

بدأ المشركون أيضا بترتيب السرايا، فقد تعلموا هذا وبدأوا يحاولون بترتيب هذه السرايا التي كانت تقوم بأعمال النهب والسلب وإضعاف الروح المعنوية لأهالي المدينة. وكانوا أحياناً ينجحون في هذا واستمر هذا طوال سنة بعد معركة بدر، وبدأ المكيون يضايقون أهل المدينة مضايقه الجراثيم للجسم، لذا كان من الضروري حفظ المدينة -المؤهلة لأن تكون مهداً للمدنية- من جميع الجراثيم الضارة، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. في هذه الفترة قُتل كعب بن الأشرف أعدى أعداء الإسلام، لأنه كان على رأس شبكة خائنة، فكان قتله ضرورياً وقام محمد بن مسلمة بهذه المهمة.[30]

وبدأ يهود بني قينقاع بإثارة المتاعب، فقد تحرشوا بامرأة مسلمة، وفي حادثة الشغب التي أعقبت هذا التحرش قتل رجال من الطرفين، ولم يكتفوا بهذا بل قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم وهم مطمئنون إلى قلاعهم الحصينة: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لَتعلمَنّ أناّ نحن الناس. فتوجه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم برهنوا أنهم أناس لا يمكن الاطمئنان إليهم وأنهم على استعداد دائم لإثارة الشغب والمشاكل. وقد ندم اليهود على فعلتهم واضطروا إلى الاستسلام ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرجهم من المدينة لأنه لم يكن مطمئناًّ إليهم.[31] وبخروجهم أصبحت المدينة المنورة أكثر أماناً.

في هذه الأثناء كانت مكة تغلي، فقد أقسم أبو سفيان أن لا يمس الطيب حتى ينتقم من المسلمين، حتى أنه أتى مرة إلى المنطقة التي يسكنها يهود بني النضير وأشعل النار في بيت أو بيتين من بيوت المسلمين ثم هرب إلى مكة.[32]

كانت شبكة الاستخبارات التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم تمده على الدوام بجميع الأخبار أولاً بأول، ومنها علم أن قريشاً قادمة إليه بقضها وقضيضها، برجالها ونسائها، وكذلك برجال من بعض القبائل الحليفة معها. فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم كبار مستشاريه واستشارهم في هذا الأمر.

كان من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبقى المسلمون في المدينة ليمارسوا حرباً دفاعية، فكما واجهت قريش في بدر استراتيجية لم تألفها، كذلك كانت ستواجه هنا استراتيجية أخرى لم تألفها أيضاً، إذ هيأت قريش نفسها لحرب ميدانية مستفيدة من تجربتها في بدر، لذا فلو بقي المسلمون في المدينة ليمارسوا حرباً دفاعية لما استطاعت قريش فرض حصار طويل على المدينة ولاضطرت إلى الرجوع إلى مكة بعد انتظار يائس حول المدينة. كان رأي الرسول صلى الله عليه وسلم باختصار هو أن يبقوا في المدينة وأن يجعلوا الذراري في الآطام[33] فإن دخل عليهم القوم قاتلوهم في الأزقة ورموا من فوق البيوت.[34]

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يروم ما يأتي من هذه الاستراتيجية:

أ. إن الحرب لم تكن هدفاً من أهداف المسلمين، فهم ممثلون للأمن وللسلام.

ب. ولكن إن رام أحد الوقوف أمام نشر الحق فيجب إزالة هذا المانع ولا يترددون في هذا الخصوص عن تقديم أي تضحية.

ج. عندما يتعرض المسلمون للهجوم فإنهم سيحاربون دفاعاً عن الدين والعرض والشرف، وإذا لزم الأمر فإنهم يقتلون ويُقتلون من أجل هذه الغاية. وهذا من حقوقهم المشروعة.

كان من الضروري إعطاء مثل هذا الانطباع ومثل هذه الصورة عن المسلمين للناس الحيارى حولهم الذين كانوا يراقبون الأحداث الجارية.

1. الشورى قبيل أُحد

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يحارب حرب دفاع، ثم رأى رؤيا في منامه، فقال لأصحابه: «إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً ورأيت في ذباب سيفي ثَلْماً[35] ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة» وكان تأويله لهذه الرؤيا: «فأما البقر فهي ناس من أصحابي يُقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يُقتل.» كما أوّل الدرع بالمدينة، لذا رغب البقاء في المدينة. إذن، فقد نبه الله تعالى نبيه وأعطاه إشارة وإيماءة لكي تكون الحرب حرباً دفاعية، وأما الثلم فكان إشارة إلى استشهاد أسد الله حمزة رضي الله عنه.[36]

ثم كان هناك أناس لم يشتركوا في معركة بدر، فكان هؤلاء يدعون من الله أن يرزقهم الشهادة، وقد قبل الله تعالى دعاءهم. فمثلاً: كان أنس بن النضر يقول: "أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غُيِّبتُ عنه، وإن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَراني الله ما أصنع" ويدعو من الله تحقيق حلمه هنا ويستعجل لقاء الله وهو مضرج بدماء الشهادة، كان أمثال أنس يحملون هذه الرغبة التي لا تقاوم طوال سنة كاملة ويدعون من الله تحقيق أمنياتهم في الشهادة، وما كانت مثل هذه الأدعية أن ترد من قبل الله تعالى، ولم ترد في الحقيقة.[37]

كان عبد الله بن جحش وعمرو بن جموح وسعد بن الربيع رضي الله عنه من هؤلاء الصحابة الذين ينتظرون الشهادة ويسعون إليها ويحلمون بها كل ليلة. ولا ننسى هنا الصحابية سُميراء رضي الله عنها وأبناءها. هؤلاء هم الذين رجحوا كفة الشورى إلى جانبهم في ذلك اليوم.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب أن يتبنى المجتمع مبدأ الشورى وأن يترسخ هذا المبدأ فيه وأن يحل كل المسائل به. كان عليه أن يتصرف هكذا لكي يحس كل فرد بأن القضية قضيته فيساندها بكل جهده لأنه اشترك في مناقشتها وأبدى رأيه فيها. صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مؤيداً بوحي السماء، ولكنه مع هذا شاور أصحابه لكيلا يقول أحد من المسلمين فيما بعد لو أننا فعلنا كذا لكانت النتيجة كذا.. كان يتشاور مع أصحابه ويأخذ آراءهم ثم يطرح رأيه الشخصي.

ولكن المتحمسين من الشباب من الذين لم يشهدوا بدراً قالوا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير. وقال رجل من الأنصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا؟ وقال حمزة رضي الله عنه: والذي أنـزل عليك الكتاب لَنجادلنهم. وقال نعيم بن مالك: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة فو الذي نفسي بيده لأدخلنها.[38]

لم يكن يريد تكرار استراتيجية استعملها سابقاً في المعركة الثانية، فعلى العدو أن يجابه في كل مرة مفاجأة جديدة، غير أن الشباب كانوا مصرين على الرأى الآخر، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم ولبس للحرب وتقلد سيفه، وعندما رأى رجال من ذوي الرأى ذلك قالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلما خرج عليهم قالوا: "يا رسول الله! إن شئت فاقعد." ولكن لقد تم اتخاذ القرار ويجب ألا يُنكص عنه لأنه:

أولاً: كان يعني إجراء ضغط على أفكار الآخرين، وهذا يعني الدخول إلى دائرة مفرغة. ثم إن الرجوع عن قرار متخذ حسب أفكار ومشاعر الأفراد ليس من شيمة أي قائد اعتيادي ويُعد خطأً كبيراً فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمن الطبيعي أن يتنـزه الرسول صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا الخطأ.

ثانياً: لو تم الدخول في حرب دفاعية وحدث شيء غير متوقع، أو ضرر غير منتظر لارتفعت أصوات بعض الذين عارضوا هذه الحرب، كان هذا احتمالاً وارداً على الدوام.

ثالثاً: النجاح والسمعة والغنائم التي تكتسب في أي حرب دفاعية لا يمكن قياسها بما يتم الحصول عليه من الحرب الميدانية، وكان من الممكن استغلال هذا الأمر من قبل غير الراضين. لكل هذه الأسباب وما يشابهها فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لنبي يلبس لأْمَتَهُ فيضعها حتى يحكم الله»[39] ذلك لأن الله تعالى عندما يقول له: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: 159) إنما يأمره بأن يكون شخصا غير متردد، ثابت القرار. أجل، فأي تردد سيقذف في قلوب تابعيه الخوف والقلق والتردد، وكل تحرك جديد سيؤدي إلى تشتت الآراء ويسوق الجمهور إلى أفكار مختلفة، وهذا يؤدي إلى التحلل والتبعثر.

صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يود البقاء في المدينة، والدخول في حرب دفاعية. ولكن عندما رجحت كفة الحرب الميدانية في أثناء إجرائه الشورى قرر تنفيذ ما استقرَّ عليه نتيجة المشورة، ولم يكن من المناسب الرجوع عن هذا القرار مهما كانت النتائج. فلو كلفه تثبيت أسلوب الشورى سبعين ألفاً وليس سبعين شخصاً لما تردد في سلوك هذا الطريق.

كانت معركة بدر نصراً خالصاً، وكانت معركة أُحد نصراً كنصر بدر في الأقل.

2. نحو أُحد

أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً فورياً بالتوجه نحو أحد، سيأخذ الجنود مواضعهم في أُحد وبذلك يمنعون الأعداء من الهجوم على المدينة. وسيضعون النساء والأطفال في أماكن آمنة، فإن دخل الأعداء إلى المدينة فسيطوقون من الخلف وستشل حركتهم. صحيح أن القرار صدر آنيا ولكن كانت هناك استراتيجيات بديلة.

عندما وصلوا إلى سفوح جبل أُحد أخذوا مواضع القتال، كان عدد المسلمين يبلغ 700 رجلٍ، وكان عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول بالرغم من مشاركته في الخروج للحرب قرر الرجوع برجاله البالغ عددهم 300 شخصاً بحجة أن المسلمين لم يأخذوا برأيه،[40] كان عدد المسلمين اللابسين الدروع يبلغ المائة، وكانت الراية مع مصعب بن عمير رضي الله عنه[41] والزبير بن العَوّام رضي الله عنه على رأس الفرسان، وحمزة رضي الله عنه على رأس الراجلين.

وضع الرماة في مكان حساس ومهم، ليمنعوا الأعداء من الالتفاف خلف المسلمين ووضع على رأسهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اِنْضَحِ[42] الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتَينَّ من قبلك.»[43]

قام الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ما يجب القيام به. ففي هذه المرة لم يرتب جيشه على شكل صفوف بل سحبهم إلى سفوح أُحد على شكل قوس لكي يحيط بالأعداء ثم يهاجمهم بالرماة ثم يرمي وسط جيش العدو بأسود المسلمين الظامئين إلى الشهادة أمثال ابن جحش ومصعب بن عمير وأبي دجانة وأسد الأسود حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.

كان شعار المسلمين يوم بدر هو "أحد، أحد!" أما في يوم أُحد فكان "أَمِتْ، أمت!" لقد تمّ تغيير تكتيك المعركة وشعارها، هنا كان المسلمون يرومون المحافظة على أنفسهم في سبيل الله ورسوله أيضا مع محاولة إيقاع أقصى الإضرار بالأعداء.

تهيأوا للمعركة حسب الخطة الموضوعة، وهز رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً بيده قائلاً: «من يأخذه بحقه؟.» سرت موجة من الحماسة لدى المسلمين، كان كل واحد منهم يتمنى أن يأخذ السيف، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعرف كل واحد منهم أفضل من نفسه، كان يفتش بعينيه عن صاحب هذا السيف، فإذا بأبي دُجانة يسأل: وما حقه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أن تضرب به العدو حتى ينحني.» فقال أبو دُجانة: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه.

كان أبو دُجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها، إذن، فمن يستطيع أن يقف أمامه، وفعلاً لم يستطع أحد أن يقف أمامه. ونحن نعلم أن الحوار المذكور أعلاه جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي دجانة رضي الله عنه[44] ولكن عندما انتهت معركة أُحد نعلم أن الكثيرين من جند الحق كانوا مثل أبي دُجانة رضي الله عنه.

كان عبد الله بن جحش رضي الله عنه يدعو من الله تعالى أن ييسر له مقابلة عدو يقتله، رحماك يارب! ما هذه الرغبة الأخروية الملتهبة في قلوب هؤلاء الأبطال! أما زئير حمزة رضي الله عنه فكان يدخل الرعب حتى في قلوب الأسود.

كان إرسال فدائي الموت هؤلاء إلى صدر العدو خطة غير متوقعة من قبل قريش، فأبو سفيان الذي كان يتوقع حصول شيء شبيه بما حصل يوم بدر فوجئ بشيء جديد لم يره يوم بدر. وكانت صيحة المسلمين "أمت، أمت" يجعل المشركين يرتجفون ارتجاف من أصابته الحمى، ولأن المشركين لم يكونوا يتوقعون هذا فسرعان ما اندحروا، هذه هي الصفحة الأولى من معركة أُحد.

في هذه الصفحة الأولى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وزع جيشه بين المدينة وجبل أُحد، أي وزع رجاله على سفوح جبل أُحد جاعلاً هذا الجبل في ظهره، ووزع الرماة في مكان مناسب قائلاً لقائدهم: «اِنْضَحِ الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتَينَّ من قبلك»

وفي رواية: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحو حتي أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم[45] فلا تبرحوا حتي أرسل إليكم.»[46] ثم أرسـل أسـوده إلى جيش العدو الذي سـرعان ما اندحر وتقهقر.

اندحر العدو اندحاراً شنيعاً إلى درجة أنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم في خيم نسائهم، واستطاع أبو دُجانة أن يصل إلى قلب جيش العدو حيث كانت هند زوجة أبي سفيان هناك على أساس أنه موضع مصان. شاهد أبو دُجانة شخصاً يحمس الناس تحميساً شديداً، فلما حمل عليه السيف ولول فإذا امرأة، يقول أبو دُجانة: "فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة"[47]

أدى الصحابة الدور المعهد إليهم بنجاح كبير وقاموا بواجبهم على أتم وجه فرضي الله عنهم أجمعين. وشرحت سورة آل عمران ما قام به هؤلاء من نضال وكفاح ورسمت لوحات البطولة فأعطت أمثلة عن الأنبياء السابقين والأبطال الذين أحاطوا بهم، وفي أثناء رسم هذه الصورة تقوم بإيماءات إلى الأبطال الذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تقول: ﴿وَكَأَيِّن مِن نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 146-148).

هذه الآية تتحدث عن الربانيين، ولكن إن نظرنا إلى الموضوع من ناحية تكرار التاريخ لنفسه فإنها تشير إلى الذين حاربوا في أُحد، فهذه الآيات نـزلت بمناسبة معركة أُحد.

3. مراحل أُحد

هناك ثلاث لوحات في أُحد.

أ - اللوحة الأولى

وهي اللوحة التي تعكس نجاح القرارات السريعة التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيح أنه تم إعطاء بعض الشهداء في هذه المرحلة، غير أن أبطال المسلمين أمثال حمزة وأبي دجانة وعبد الله بن جحش رضي الله عنهم حصدوا المشركين حصداً، ونالوا نصراً واضحاً وهزموا المشركين هزيمة نكراء.

حتى أن نساء المشركين حاولن إيقاف هروب المشركين صارخات فيهم ومتوسلات ألا يهربوا، لأن الهروب لا يليق بهم، ولكن لم تجدِ هذه الصرخات في إيقاف هروب جنود مكة.

تذكر المصادر التاريخية الموثوقة بأن عدد المسلمين في هذه المعركة كان سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين، بينما كانت قوة الأعداء تقرب من ثلاثة آلاف مقاتل، وهذا يعني أنهم كانوا أكثر من أربعة أضعاف المسلمين. أي أن كل مسلم كان عليه أن مقاتلة أكثر من أربعة من الأعداء في تلك المعركة. وكانت قريش قد جلبت معها النساء والأطفال، وكان هؤلاء يضربون الدف ويثيرون الجند.

كانت عدة جيش المشركين كاملة، ولكنهم مع كل هذا التهيؤ والاستعداد هُزموا أمام المسلمين كما هزموا يوم بدر. في هذه الأثناء وقع سهو كبير، وهو عدم رعاية الأوامر الصادرة. ونحن نطلق كلمة "زلة" على هذا التصرف، ذلك لأن أصحابها كانوا من المقربين إلى الله تعالى إلى درجة كأنهم يرونه تعالى، كانوا مؤمنين ويعيشون الإسلام بالعمق الأخروي إلى درجة قد لا نستطيع نحن تصورها، كانوا يتعبدون الله تعالى وكأنهم يرونه، ويشاهدون كل شيء بشكل مختلف عما نشاهده نحن.. ولأنهم كانوا بهذا القرب كانوا محاسبين ومؤاخذين حتى على الأفكار التي تخطر على قلوبهم وعلى عقولهم. وكانت هذه الهزة امتحاناً للمقربين. أجل، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موفقاً حتى في أُحد وأنا لا أعد معركة أُحد هزيمة مثلما يعدها بعض المؤرخين. وأعد كلمة "هزيمة" كلمة ثقيلة وجارحة، وأفضل أن أقول في حقها: إنها هزة حدثت في مرحلة من مراحل معركة أُحد.

بـ - اللوحة الثانية

كانت الهزيمة قد حاقت بالعدو الذي بدأ بالهرب بشكل فوضوي، وكشيء طبيعي تذكر المسلمون معركة بدر، فقد هرب العدو يومذاك أيضا مثل هذا الهرب، لذا فقد ظنوا أن الأمر قد حسم لصالحهم مثل ذلك اليوم، وأن الدور الآن هو دور جمع الغنائم. فالجمال والخيول كانت هناك تنتظرهم بعد أن هرب العدو وترك كل أمواله، ولم يكن هناك في الظاهر أي مانع من جمع هذه الغنائم، لذا فقد اشترك الرماة أيضا في جمع الغنائم، ومع أن عبد الله بن جبير رضي الله عنه ذكّرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم لم يفهموا المعنى الدقيق للأمر لأنهم لم يفسروا الأمر أو يفهموه على أنه يجب البقاء في أماكنهم حتى نهاية المعركة.. وها هي المعركة قد انتهت وانهزم الأعداء، كان من المحال في نظرهم أن يقوم جيش مهزوم بلم صفوفه والرجوع ثانية إلى القتال. هذه هي اللوحة الثانية لمعركة أُحد.

ﺟ - اللوحة الثالثة

كان ترك الرماة أماكنهم يعني إحداث ثغرة في الجبهة، وما كان هناك احتمال أن يفوت هذا الأمر عن نظر قائد عبقري مثل خالد بن الوليد، لقد سنحت له الفرصة المواتية.

كان المسلمون آنذاك قد أغمدوا سيوفهم، وانشغلوا بجمع الغنائم، كما انسحب قسم منهم لأخذ قسط من الراحة في خيامهم. انقض خالد مثل الصاعقة وقتل بضعة أنفار من الرماة الذين بقوا في أماكنهم ولم يبرحوها والتف حول المسلمين من الخلف.. أخذ المسلمون على غرة تماماً.. علماً بأنهم كانوا قد فقدوا التوتر النفسي الضروري لجو المعركة، وهذا أفاد خالداً وسهل له عمله، فاستغل هذه الفرصة وحقق هذا الهجوم المباغت.

من المفيد هنا الإشارة إلى نقطة أخرى، وهي أن المسلمين عندما توجهوا إلى أُحد توجهوا وهم يحملون شرخاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد البقاء في المدينة غير أنهم أصروا على الخروج، وكان هذا يشكل شيئاً سلبياً بالنسبة لهم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرماة بالتزام أماكنهم وعدم تركها ولكنهم تركوها، وهذه كانت زلة أخرى، والقرآن الكريم يتناول هذا الموضوع فيقول عن هذه الزلاَّت: ﴿.. إِنَّمَا استَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعضِ مَا كَسَبُوا﴾ (آل عمران: 155)، أي قيل لهم في البداية أن يبقوا في المدينة فأصروا على الخروج منها، وقيل للرماة في أثناء الحرب، ابقوا في أماكنكم فلم يبقوا فيها، وتركوها لجمع الغنائم أو لمساعدة الآخرين في جمع الغنائم. فعدم استماعهم إلى النصيحة الأولى أدخل المسلمين إلى دائرة مفرغة من الأخطاء، وأدى إلى الخطأ الثاني أو الزلة الثانية، ولو لم يمنع الله تعالى دوام عمل هذه الدائرة المفرغة لتعاقبت الأخطاء، ولكنه أراهم أن رحمته سبقت غضبه، فنشر رحمته على تلك الجماعة المقربة إليه.

ثم إنهم انشغلوا بجمع الغنائم على وهم أن المعركة قد انتهت، والحقيقة أن هذا العمل قد يعد عملاً اعتيادياً ولا شائبة فيه، ولكنه يعد زلة بالنسبة للأشخاص القريبين من الله تعالى -أي المقربين- حتى أن الله تعالى نبه نبيه وحبيبه على فعله في أخذ الفدية من أسرى بدر،[48] فبكى النبي صلى الله عليه وسلم والصديق من هذ التنبيه ورآهما عمر رضي الله عنه على هذه الحال فبكى لبكائهما.[49] لم يكن هؤلاء يميلون إلى الدنيا وما كان لهم أن يميلوا. بل كان عليهم أن ينبذوها.. إن أخذ الغنائم بالنسبة لأمثالنا شيء لا غبار عليه، غير أن قيام المقربين بجمع الغنائم من ذلك الميدان المضرج بدماء الشهداء سيؤدي في المستقبل إلى إحساسهم بندم كبير، ولكن شاء الله تعالى بتأديبه العاجل لهم أن يصونهم من تلك العاقبة.

ولكن فتحت هناك ثغرة أخرى. أجل، فكل مصيبة تُنسي المصيبة السابقة، فكأن المصائب بدأت تأتي وهي تتضاعف وتتزايد، فالمصيبة الأخرى التي كانت أعظم من كل المصائب السابقة كانت حصار المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشار نبأ استشهاده. وقع هذا النبأ كصاعقة أنست جميع المصائب السابقة. ولكن الله سلم إذ التف حول الرسول صلى الله عليه وسلم جدار حصين من اللحم والعظم من المسلمين الذين سمعوا صوته قبل وصول الأعداء إليه. فكم من امرأة تحمل في يدها قرب الماء أو ضماد الجرحى خرجت لسقي المسلمين ومداواة جرحاهم أسرعت لنجدة الرسول صلى الله عليه وسلم. كانت أُم عُمارة رضي الله عنها على رأس هؤلاء النسوة تسقي المسلمين وتضمد الجرحى. كان المنظر الذي رأته يجمد الدم في العروق.. كان الحصن المكون من اللحم والعظم حول الرسول صلى الله عليه وسلم يتساقط شيئا فشيئا والأيدي الخائنة تتقدم نحوه خطوة فخطوة. كان واضحاً أن من المستحيل الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يقطع هذا الحصن من اللحم والعظم أشلاءً وقطعاً.. كان كل سيف حاقد يسل من أجله، وكل سهم حانق يُرمى وكل رمح يُصوب نحوه، ولكن جميعها كان يصطدم بجسد مؤمن من المؤمنين المحيطين به، وجاءت لحظة لم يبق هناك ذراع لم تُبتر أو رأس لم يُقطع وبدأت جماعة من المشركين الحانقين يتقدمون نحوه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لي بهؤلاء؟»

فرمت نسيبة رضي الله عنها ما بيدها وهرعت إليه قائلة: "أنا يا رسول الله!" أخذت مكانها في موقف الدفاع عنه وبدأت تذب عنه بسيفها ذات اليمين وذات الشمال، كانت قد أتت لمداواة الجرحى ولكن عندما اشتد الخطب انقلبت إلى لبؤة كاسرة، وبينما هي تقاتل عن الرسول صلى الله عليه وسلم رأت ابنها وقد بترت ذراعه بضربة سيف، أسرعت نحوه وربطت جرحه ثم قالت له: "اذهب فقاتل أمام رسول الله" ثم رجعت إلى مكانها، كانت تقاتل قريبة من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنها تسمع همسه، ثم أصيبت بجرح غائر وعميق في ظهرها، كانت قد أرسلت ابنها للقتال وها هي تقاتل بالقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يطيق ما تطيقين؟» فقالت له: "ادع الله أن يجعلني معك يا رسول الله!" فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعلها معه في الجنة،[50] فلما سمعت بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لها قالت بأنها تستطيع أن تقاتل أمامه حتى يوم القيامة.

كانت حياة هذه الصحابية سلسلة متصلة من المفاخر، فقد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم في العَقَبة ودعته إلى المدينة، وكانت سبباً في إسلام أفراد بيتها جميعاً، وقاتلت أمام النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد، وواجهت الموت في سبيله مواجهة الأبطال.. وعندما نـزلت آية الحجاب حزنت لأنها رأت أنها لن تستطيع الاشتراك في الجهاد الفعلي بعد ذلك، وعندما ظهر الأنبياء الكذبة اشتركت في معركة اليمامة وتركت هناك ذراعها وابنها وعادت. أجل، لقد عاشت مراحل صعبة تفوق طاقة أي امرأة.[51]

كان أنس بن النضر -عم أنس بن مالك- يقاتل في أُحد ويصيح بالمسلمين الذين ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل: "فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم"[52] تمت التحشيدات الأولى هنا، حيث رد هجوم الأعداء.. انتهت الهزة، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يصدر أوامر جديدة إلى أصحابه الذين لم يفهموا سر أوامره الأولى، ويتبع استراتيجية جديدة، وهنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبحث عن سعد بن الربيع، فذهب رجل من الأنصار فوجده جريحاً وبه رمق، فسأل عن حاله فقال: "أنا في الأموات، فأَبْلِغْ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف" وبقى الأنصاري بجانبه حتى جاد بروحه، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فبلغه حديث سعد.[53]

من الطبيعي أن الذين دعوا الله لنيل شرف الشهادة قد أجيبت دعواتهم، فقد دعا أنس بن النضر ودعا عبد الله بن جحش ودعا حمزة بن عبد المطلب، دعا هؤلاء فاستجيبت دعواتهم وطاروا إلى السماء شهداء، أما الذين بقوا ولم يسشتهدوا فقد غرقوا في لجة من الدماء.. كانت أُحد تبكي دماً.. وكان هناك بكاء من نوع آخر.. بكاء القلوب التي ظنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل.. فارت القلوب أسى وحزناً من أثر هذه الشائعة إلى درجة اهتزت منه روحهم المعنوية، وفكر بعضهم في الرجوع إلى المدينة لتهيئة مقاتلين آخرين وجلبهم إلى المعركة، وكان لبعضهم آراء وخطط أخرى فأخذوا يتحركون ذات اليمين وذات الشمال.. وبينما كانوا في أوج الذهول والاضطراب إذا بهم يسمعون صوت كعب بن مالك وهو يجلجل:

"يا معشر المسلمين! أبشروا، هذا رسول الله"[54] كانت هذه الصيحة بمثابة البعث بعد الموت في يوم أُحد إذ اسرع المسلمون إليه، وهنا تم التحشد الثاني، أي حول المكان الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً فيه.. هنا تكون سور آخر من اللحم والعظم، فبعضهم كانوا يحمونه بأجسادهم، وبعضهم كان يحاول إخراج حلقتي المغفر من وجنتيه، ويحاول بعضهم تجميع المسلمين هناك، ولكن الجميع كانوا يحاولون صيانة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يصون المرء عينيه،[55] لم يكن هناك أحد لايفدي سناً واحدةً للرسول صلى الله عليه وسلم بحياته.. التفوا إذن، حوله مرة أخرى، أقسموا بأنهم لن يتركوه أبداً بعد الآن.. وأمسك الرسول صلى الله عليه وسلم والقائد الكبير بزمام الأمور بيده مرة أخرى، وليبدأ بتطبيق استراتيجية أخرى لا تؤثر فيها الأخطاء السابقة التي وقعت، لذا انسحب بهدوء مع المسلمين المحيطين به إلى خلف جبل أُحد ليهيئ هناك خطة تشكيل قوة جديدة، أي بدأ بالتخطيط للمرحلة أو اللوحة الثالثة التي ستنتهي بالنجاح.[56]

4. من الهزة إلى النصر

هذه اللوحة الثالثة كانت نصراً واضحاً.. كانت نصراً لأن العدو تراجع للوراء وطاردهم المسلمون.. والحقيقة أن أبا سفيان نوى ترتيب هجوم آخر على المسلمين إذ نوى الهجوم على المدينة، ولكن صفوان بن أمية قال له: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا[57] وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا، فرجعوا.[58]

إذن، فبعد ما ظهر أنه خسران للمعركة، فقد حصل الرسول صلى الله عليه وسلم على نصر واضح. وبهذا فكأن القدر كان يريد أن يلقن الصحابة الدرس التالي: إن الله تعالى وهب نبيه وحبيبه نصراً مباشراً بفضله وكرمه وعنايته، أما سيوفكم فليست سوى أسباب ظاهرية، وإلا فإن الله تعالى هوالذي ينقل رسوله من نصر إلى نصر.

هذه هي الانتصارات التي تحققت في بداية معركة أُحد ثم في نهايتها، بينما كانت هناك هزة عنيفة ولكن مؤقتة في وسطها.. ولكن الله تعالى لم يتخل عن رسوله حتى في أصعب اللحظات ولم يتركه وحيداً بل أعطاه النصر الذي وعده، والآية الكريمة التالية تتناول هذا الموضوع: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبُّونَ مِنكُم مَن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الاٰخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(آل عمران: 152-153)، هناك مقاولة بينكم وبين الله، فالله تعالى يقول: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (البقرة: 40) ولن يخل الله بهذا العهد، ولكن إن أخللتم به أخل الله أيضاً. ويقول إن الله تعالى حقق وعده في أُحد إذ كنتم تقتلون الكافرين بإذنه وبمشيئته، ولكنكم فشلتم عندما تنازعتم في الأمر وعصيتم، فبدلاً من الصبر قليلاً، فقد استعجلتم جمع الغنائم ولم تنتظروا الأوامر. أجل، فسيد الأنبياء كان في خيمته وينتظر الوقت المناسب لإعطاء هذه الأوامر، ولكنكم استعجلتم ودخل النـزاع بينكم، فكل قرار جديد سيؤدي إلى تشتت الآراء وتظهر مختلف الآراء حيث يسلك كل صاحب رأي طريقاً خاصاً به، فتنهار الوحدة والتماسك وعندما أراكم الله ما تحبون ظهر منكم العصيان، بينما لا يليق هذا بكم لأنكم من المقربين وقد يجوز للآخرين، ولكن لا يجوز لكم وأنتم موجودون حول هالة الرسالة النبوية، وتأخذون دروسكم من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة وتحضرون مجالسه وتسمعون إرشاداته، وقد سبق وأن اكتسبتم رضوان الله تعالى وعندما رأيتم شيئاً مما تحبون -كان هذا عرضاً من أعراض الدنيا وغير ذي أهمية- ملتم إليه ولكن الله أخذه من أيديكم وحرمكم منه، ولو أنكم استهدفتم الآخرة لأقبلت إليكم الدنيا أيضاً، ولكنكم ملتم إلى الدنيا بوجه من الوجوه، كان عليكم أن تركزوا جهودكم لطلب الآخرة، أما الدنيا فكانت ستقبل عليكم كنتيجة طبيعية، أي لو أنكم طلبتم الآخرة لأقبلت إليكم راكضة وراءكم، ولكن لا تنسوا أن الله قد عفا وصفح عنكم.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أحرز ما يمكن أن نعده نصراً بعد تلك الهزة العنيفة، فقد توجه أبو سفيان وجنده سريعاً إلى مكة بعد أن ألقى النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم الرعب، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد رجع إلى المدينة.

ج- نحو حمراء الأسد

بعد رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وصلته أخبار من مكة بأن أهل مكة بدأوا يتلاومون فيما بينهم حتى قال أحدهم: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم.[59]

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة لتوه عندما جاءته الأنباء بأن أبا سفيان مقبل على المدينة، وذلك قبل أن يجد الجرحى وقتا كافياً لتضميد جراحهم، وكان من المنتظر وفاة العديد منهم متأثرين بجراحهم. وكان قسم من الجرحى في وضع لا يستطيعون معه الحركة أو السير، ومع ذلك قاموا بالسير نحو حمراء الأسد.. كانت هذه خطوة تهديدية من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ضد مشركي مكة لإخافتهم وشل حركتهم، وأعلن في المدينة: «لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال»[60]

على إثر هذه الدعوة قام الجرحى حتى أصحاب الإصابات البليغة المنتظرين للمداواة والعلاج.. قاموا من الفراش وكأنهم أموات بعثوا من القبور، وتجمعوا في المكان المعين لهم.. أجل، لقد بعثوا عندما سمعوا صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يناديهم وكأنهم يصدقون قول الشاعر البوصيري:

لو ناسبتْ قدرَه آياتُه عِظما    أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرِّمَم

ولا يذكر التاريخ لنا أن رجلاً واحداً بقي دون إجابة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان من بين هؤلاء من فقد يده أو رجله، فخرج وهو يعرج أو يجر نفسه جراً بكل عناء. يقول أحد الصحابة من الذين شهدوا معركة أُحد: "شهدت أُحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً، فكان إذا غلب حملته عُقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون."[61]

وعندما بلغت أخبار هذه المسيرة إلى قريش ارتعبت، ولم يضيع أبو سفيان وقتاً، إذ سرعان ما وجد السلامة في الهرب، لذا فإن الجيش المسلم الذي خرج مما بدا أنه هزيمة وصل إلى حمراء الأسد وهو يطلق صيحات النصر، وبقي هناك ثلاثة أيام هي أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ارتاح هناك وضمد جراحه المادية والمعنوية ثم رجع إلى المدينة.

لم يتضرر أحد في هذه المسيرة، ولكن أبا سفيان مع ادعائه أنه أحرز نصراً على المسلمين ما إن سمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه إليه بجيشه حتى ذعر وأسرع بالهرب إلى مكة، وكان هذا سبباً في خيبة الأمل عند جميع أفراد الأعداء.[62] وأنا أتساءل الآن: أيّ جانب يعد هو الجانب المنتصر في يوم أُحد وأيهما المغلوب؟ هل المنتصر قريش الهاربة أم جيش المسلمين المهاجم؟ ليس هناك قائد عسكري آخر يستطيع قلب الهزيمة إلى مثل هذا الانتصار الواضح، إذ نجد هنا البصمة الواضحة لفطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وختمه.

أيها القارئ الكريم! لقد حاولت تقييم استراتيجية الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة بدر وأُحد، لقد حاولت ذلك وعبرت عنه بلسان شخص غير مختص في هذا الموضوع، لأنني اضطررت إلى ذلك، فإن رأى القارئ في كلامي عيباً، فإنني أرجو المعذرة منه وأرجو العفو والصفح من الله تعالى.

1. الاستراتيجية المتغيرة على الدوام

والآن سأحاول عرض الموقف في بدر وفي أُحد الذي كانت بدايته ونهايته نصراً، وكان وسطه هزة، وذلك بشكل موجز.

استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم تكتيكاً في بدر، وتكتيكاً آخر في أُحد، وآخر في معركة الخندق، وفي كل معركة خاضها كان له فيها تكتيك خاص، وهذا الأمر كان يقلب توقعات الأعداء، ويجعلهم في حيرة من أمرهم، كما أدى هذا إلى تقليل خسائر المسلمين، فمجموع عدد الشهداء المسلمين في جميع المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم كان مائة ونيفاً فقط. لقد كان زعيماً لا مثيل له، عاش المسلمون في عهده في عهد سعادة حقيقية لا يمكن أن تتكرر. تصوروا أنه أعلن الحرب على الجميع بدءاً من عمه إلى العرب وإلى العجم، وأنه على الرغم من قيامه بكل تلك الحروب، وبإنجاز كل تلك الأعمال المهمة فإنه لم يعط إلا خسارة ضئيلة جداً.

أجل، لقد استعمل تكتيكاً آخر غير الذي استعمله في بدر، فقد اختار في أُحد فدائيين معينين أعطى لهم مهمات خاصة. وعين موضعاً خاصاً للرماة ليمنع هجوم العدو من الوراء، ونظم بنفسه وبيده الكريمة الصفوف، وأثار فيهم الحماسة وشعور المنافسة، أي تصرف تصرفاً أثار به شعور الغبطة في نفوس الصحابة نحو بعضهم، فمثلاً أعطى أبا دجانة رضي الله عنه سيفاً ليستعمله بحقه، وعندما بدأ أبو دجانة يتبختر بين الصفين بعد أن اعتصب بعصابته الحمراء قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنها لَـمِشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.»[63]

وانطلاقاً من هذا قال بعض الفقهاء: إن من المستحب أن يربي الجنود المقاتلون شواربهم، لكي يكونوا أشد رهبة في قلوب الأعداء، وقالوا: إنه كلما أظهر الجنود عدم اكتراثهم بالموت في جبهة القتال، وكلما تفاخروا بذلك أو تبختروا كلما كان ذلك أفضل.

لم يستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التكتيك في بدر، ولكنه استعمله في أُحد، ودفع الصحابة للمنافسة والتسابق. كان الجميع يتمنون أن يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ذلك السيف الذي أمسكه بيده، ولكنه أعطى هذا السيف إلى أبي دجانة رضي الله عنه، وهذا جعل الفدائيين الآخرين يستقتلون في الحرب، وأصبح كل منهم مثل أبي دجانة رضي الله عنه.

والشيء الآخر الذي طبقه في أُحد ولم يطبقه في بدر هو وجود النساء في أُحد، وقد ذكرنا البطولة التي أبدتها الصحابية نسيبة رضي الله عنها. ولا نعرف على وجه اليقين عما إذا كانت فاطمة رضي الله عنها قد اشتركت في القتال، ولكننا نعلم من المصادر التاريخية الموثوقة أنها قامت بمسح الدماء عن وجه أبيها، وعندما رأت أن مسح وجهه بالماء يزيد من تدفق الدم أخذت قطعة من حصير فأحرقتها ووضعتها على الجرح فاستمسك الدم.[64] إذن، فقد أحضر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض النساء إلى أحد لمساعدة الجرحى ولرفع الروح المعنوية عندهم.

2.  أسباب الهزة المؤقتة في أُحد

يجب الاعتراف بأن شروخاً حصلت في الفترة بين لوحتي النصر في أُحد، ونستطيع ذكر أسبابها:

السبب الأول: فضّل الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بداية الأمر البقاء في المدينة وتطبيق خطة دفاعية، ولكن حماسة الصحابة منعتهم من إدراك السر الدقيق في إطاعة هذا الأمر، بينما كان المفروض عليهم الطاعة المطلقة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم. ويمكن ذكر الشيء نفسه بالنسبة للرماة في أثناء المعركة، وهذه المعارضة لأوامره -وإن كانت مؤقتة- كونت هذه الهزة.

السبب الثاني: دخل هؤلاء الناس في تناقض مع عالمهم الداخلي ومع فطرتهم، فالميل إلى الدنيا لم يكن من شيمتهم، وقد أثبتوا هذا عندما تركوا كل ما يملكون في مكة وهاجروا إلى المدينة. ولما كان الانشغال بالغنيمة وبأموال الدنيا في تلك الساعة التي كانوا في أقرب موقع من الآخرة يُعد غفلة بالنسبة للمقربين، فإن الله تعالى أراد أن يعاقب هؤلاء المقربين -بل أقرب المقربين- عقاباً بدنياً. وكان هذا عقاباً خاصاً لأناس وصلوا إلى مستوى الصحابة. أجل، فما يمكن أن يعد حسنة وثواباً بالنسبة لأمثالنا يعد ذنباً بالنسبة إليهم، وذلك على قاعدة: "حسنات الأبرار سيئات المقربين."

السبب الثالث: ويمكن أن نعد وجود عبقرية عسكرية كخالد بن الوليد في الصف المقابل من أهم أسباب تلك الهزة.. فالله تعالى حافظ على صفة الانتصار الدائم لخالد بن الوليد، الذي قدم فيما بعد خدمات جليلة للإسلام، وهذا كان يعني مكافأة عأجلة لحسناته الآجلة، ذلك لأن الشجاعة والإقدام الذي كان ينفثه هذا العنوان أو هذه الصفة -عنوان سيف الله أو صفة الانتصار الدائم- سينقض فيما بعد على رؤوس الروم والفرس انقضاض المطرقة.. فلو هُزم خالد في هذه المعركة، لكان من الممكن ألا يستطيع خدمة الإسلام بتلك الروح العالية.[65]

السبب الرابع: كانت هناك دعوات حارة وملتهبة من قبل الذين لم يستطيعوا الاشتراك في معركة بدر، كانوا يدعون من الله على الدوام أن يمنحهم الشهادة، وقد قبل الله تعالى هذه الأدعية واستجاب لها، ومنحهم هذا الوسام الرفيع. ففي أثناء الهزة التي حدثت في أُحد عندما شاهد أنس بن النضر رضي الله عنه الذين هزتهم شائعة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واضطرابهم قال: "يا قوم، إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد صلى الله عليه وسلم لم يُقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء" ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل، لأنه كان يستعجل لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ظن أنه استشهد.[66]

أجل، لقد استُجيبت أدعية جميع من طلب الشهادة تقريباً، ثم من طلب الشهادة بحق وحرم منها؟ إذ بعد عصور عديدة دعا السلطان مراد الأول ربه قبيل معركة "كوسفو": "اللّهم اجعل أمة محمد عزيزة الجانب، واجعلني شهيداً"، واستجاب الله لدعائه، إذ حصل المسلمون على نصر ساحق حيث استشهد السلطان وهو يجول بين القتلى في ساحة المعركة بعد انتهائها بخنجر الصِّربي "ميلوش"[67] أي تحقق الشق الثاني من دعاء ذلك الإنسان العظيم، فاستشهد وذهب إلى رحمة ربه. فالله تعالى يتقبل هذه الأدعية الصادرة من أعماق القلوب. لذا، استجاب الله تعالى في موقعة أُحد لكل هذه الأدعية المتكررة من قبل الصحابة بالاستشهاد، وظهر من استشهاد كل هذا الجمع منهم وكأنه انكسار لجيش المسلمين.

السبب الخامس: كانت معركة أُحد معركة بين صحابة الحاضر وصحابة المستقبل، أي كانت معركة بين رجال أسلموا وأصبحوا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين رجال سيصبحون في المستقبل من الصحابة، وسيلعبون أدواراً مهمة في الفتوحات الإسلامية في المستقبل، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة وابن هشام. فلكي يتحول هؤلاء الذين ما كانت فطرتهم وطبيعتهم تتحمل الهزيمة إلى الإسلام دون أن تجرح كرامتهم كان لا بد من وقوع انكسار مؤقت في معركة أُحد.

السبب السادس: كان هناك درس في التوحيد في الهزة التي حدثت في أُحد، فالانتصار في معركة بدر كان من الممكن أن يزيد من حصة الأسباب الظاهرية لدى بعضهم. صحيح أن الإحساس بالفخر وبالعزة أمام الأعداء إحساس بريء، ولكن مثل هذا الإحساس وإن خطر ببالهم لحظة واحدة يعد بالنسبة للمقربين من أمثالهم سيئة كما قلنا هذا سابقاً. فالهزيمة أو النصر مرتبطان بمشيئة الله تعالى، وهو الذي أهدى لهم النصر في بدر، فإذا قام بعضهم بإسناد النصر إلى أنفسهم دون الالتفات إلى قضاء الله ومشيئته عد ذلك شركاً خفياً. بينما كان هؤلاء بعيدين عن أخف شرك فراسخ عديدة، ومع أن الجميع كانوا مؤمنين بهذا ويتقبلونه على المستوى الفكري، إلا أن الله تعالى أحب أن يصل بالصحابة في هذا الموضوع إلى مستوى حق اليقين، فأحدث هزة عنيفة في صفوف المسلمين وهم في أوج النصر في معركة أُحد، وجعلهم في موقف المغلوبين، ثم أهدى لهم النصر في وقت لم يكونوا يتوقعونه أبداً، مذكراً إياهم بأن المشيئة والحكم له وحده: ﴿قُلِ اللّٰهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنـزعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 26).

لقد ظهرت لهم معاني هذه الآيات بأجلى شكلها أمامهم في أُحد، إذ عاش المسلمون هذه المعاني عملياً، ورأوا مشيئة الله وإرادته وهي تطبق أمام أعينهم. صحيح أنه قد جرى وحصل لهم بعض الأضرار البسيطة ظاهرياً، إلا أن ما تم اكتسابه في ذلك اليوم من زاوية الإيمان، ومن زاوية نور التوحيد الذي يضم في ثناياه سر الأحدية.. ما تم اكتسابه في هذا الموضوع خفف وأزال تلك الأضرار الظاهرية.

لا ينكر أحد أن للسيف حقه، وللتعبئة الصحيحة حقها، وأنها من الأسباب المؤدية إلى النصر، إلا أن الأساس هو إرادة الله ومشيئته، ذلك لأنه هو وحده القادر على كل شيء. أجل، فكأن الله تعالى كان يريد أن يقول للمؤمنين في أثناء تلك الهزة المؤقتة: لن تستطيعوا الوصول إلى شيء إن لم تأخذوا في حسبانكم قدرة الله تعالى وقوته، فها أنتم ترون أنه من الممكن أن ينقلب النصر إلى هزيمة، إذن، فكما أن قطف النصر محال إن لم يشأ الله تعالى ذلك، كذلك لا يمكن الخلاص من الهزيمة إلا بمشيئته.

كل مؤمن يحتاج إلى أخذ مثل هذا الدرس العملي في التوحيد، ومن المحتمل أن الصحابة أصبحوا لنا ممثلين لمثل هذا الدرس الكبير. ثم إن مثل هذا العقاب المؤقت الذي أعطى للمؤمنين جزاء مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، قد نبه المؤمنين وجعلهم أكثر حذراً وحساسية عند طرحهم لآرائهم في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الأدب الرفيع الذي اكتسبه المؤمنون لم يكن ربحاً وكسباً بسيطاً أو هيناً: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ اْلأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 140).

ولكن الأيام التي داولها الله تعالى كانت في الأغلب في مصلحة المؤمنين، وستكون كذلك في المستقبل، لأن القرآن الكريم يقول: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128) أي أن القرآن الكريم يبشرنا ونحن نعيش هذه الفوضى الشاملة بمستقبل مشرق، وقد حدث هذا في أُحد أيضاً، ولكن النتيجة والعاقبة كانت نصراً للمؤمنين. أجل، لقد كانت هناك هزة في أُحد، هزة كانت لها حكمها العديدة، ولم تكن هزيمة على الإطلاق، كلا فقد كانت معركة أُحد معركة انتصار وذات جوانب عديدة.

3. إزالة روح الانكسار

بعد رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه المناورة إلى المدينة عقب معركة أُحد، استطاع أن يعيد للمسلمين روحهم المعنوية السابقة، أصبح المسلمون أكثر تجربة من السابق وأكثر حساسية وأكثر قابلية في فهم ما ينطوي عليه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من دقة وحكمة.

غير أن الهزة المؤقتة التي تعرض لها المسلمون في المعركة سرعان ما ذاع خبرها حوالي المدينة مما أدى إلى زيادة طمع بعض القبائل العربية وبعض اليهود وتحريك شهيتهم. لذا، فقد أصبح من الضروري استعادة الكرامة التي جُرحت في معركة أُحد، وإظهار مدى قوة المسلمين وبأسهم الحقيقي، ولم يكن هذا العمل يتحمل أي تأخير على الإطلاق.

في السنة الرابعة للهجرة توجه الرسول صلى الله عليه وسلم نحو بني النضير الذين تعاونوا مع مشركي مكة، وكانت هذه القبيلة اليهودية قد خرجت عن طور الأدب تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاولت اغتياله مرتين، وكانت هذه القبيلة قد اعتمدت على مساعدة منافقي المدينة ومشركي مكة، فأعلنت الحرب ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقدت أنها ستكون بمأمن من أيدي المسلمين خلف أسوار قلعتها الحصينة.

ولكنها اضطرت للاستسلام بعد خمسة عشر يوماً فقط من الحصار، ووافقت على الجلاء عن المدينة على أن يأخذوا معهم ما يستطيعون حمله من متاعهم، ومع هذا فقد كانوا سعداء إذ أنهم تخلصوا من الموت، لذا فإن الاحتفال الذي احتفلوا به قبيل تركهم المدينة كان احتفالاً لم ير أهل المدينة مثيلاً له، وإن الإنسان ليستغرب من ذلة هؤلاء الناس، الذين يحتفلون وهم على أعتاب مفارقة موطنهم ومساكنهم، بدلاً من الإحساس بالحزن والأسى.[68]

د- بدر الصغرى

كان أبو سفيان قد قال قبيل رجوعه من أُحد: إن موعدكم بدر العام المقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «قل نعم، هو بيننا وبينك موعد.»[69] لذا، فقد حضر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدر مع كامل جيشه في الوقت المحدد وأقام هناك ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان ولكن لم يبد هناك أي أثر للمشركين فرجع إلى المدينة. وانتقلت هذه الحادثة إلى التاريخ الإسلامي تحت اسم بدر الصغرى أو بدر الآخرة، إذ تحدوا المشركين الذين خافوا وجبنوا عن اللقاء، لذا فقد اكتسب المسلمون نصراً كنصر بدر وإن كان بمقياس أصغر. وكانت جماعة من بني عبد القيس قد أشاعت بين المسلمين أن أبا سفيان هيأ جيشاً ضخماً، وأنه توجه إلى بدر يريد بذلك إضعاف الروح المعنوية للمسلمين، ولكن هذا الخبر لم يزد المؤمنين إلا إيماناً، والقرآن الكريم يشير إلى هذا فيقول: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173) ورجع المسلمون من بدر الصغرى وهم في غاية الاطمئنان، لقد بدأ الأمن يستتب في الصحراء وبين القبائل مرة أخرى.

ﻫ- غزوة ذات الرِّقَاع

استمرت هذه المناورات طوال السنة الرابعة للهجرة. في هذه الأثناء قررت قبيلتا بني ثعلبة وبني مُحارب من غَطَفَان الهجوم على المدينة. وعندما وصلت أخبار هذا القرار إلى الرسول صلى الله عليه وسلم خرج مع أربعمائة من المسلمين حتى وصل موضعاً يقال له ذات الرِّقاع، غير أن هاتين القبيلتين عندما علمتا بقدوم المسلمين خنستا واختبأتا في جحورهما، لذا فلم يقع أي قتال.[70] ولكن هذه الغزوة سجلت نصراً في قائمة المسلمين.

و- غزوة بني المصطلق من خُزاعة أو المُرَيْسِيع[71]

وفي سنة خمس من الهجرة وقعت غزوة الـمُرَيْسيع، أو غزوة بني المصطلق، والمريسيع اسم لموضع يبعد عن المدينة تسعة فراسخ، حيث انقاد المشركون الساكنون هنا إلى إغراءات مشركي قريش وقرروا الهجوم على المدينة.. لذا، رتب الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً وخرج به نحو المُرَيْسيع، وعندما بلغ بني المصطلق نبأ قدوم المسلمين هربوا ولم يبق في الميدان سوى أهالي المريسيع الذين قاتلوا المسلمين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم غلبهم، ولم تحدث خسائر في صفوف المسلمين إلا قيام أحد الأنصار بقتل الصحابي هشام بن صبابة خطأ إذ حسبه من الأعداء، أما الطرف المعادي فقد قتل منهم عشرة رجال. ورجع المسلمون إلى المدينة مع 600 أسير و2000 بعير و5000 شاة. وهكذا أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم نصراً جديداً إلى سلسلة انتصاراته.[72]

عند العودة من هذه الغزوة تسلل بعض المنافقين إلى صفوف المسلمين لكي يزرعوا النفاق والشقاق بينهم، ولكي يستفيدوا من الغنائم، حتى حاولوا استغلال حادثة صغيرة وخلافٍ بين حليف لأحد الأنصار وأجير لأحد المهاجرين حول أيهما أحق بسقي بعيره من بئر هناك، ولكنهم لم ينجحوا، فأسفر عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول عن مدى نفاقه عند العودة من هذه الغزوة عندما قال بمناسبة هذه الوقعة: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخرِجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ، وكان يشير إلى نفسه بأنه الأعز وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم -حاشاه- بأنه الأذل، وعندما بلغ هذا النبأ ابن هذا المنافق، وهو الصحابي الكبير عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له:

"يا رسول الله! إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنتَ فاعلاً فمُرْ لي به فأنا أحمل إليك رأسه، فواللهِ لقد علمَتْ الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتلَه فلا تدَعُني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبَى يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار" فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونُحسن صحبته ما بقي معنا.» ثم إن ابنه عبد الله رضي الله عنه وقف لأبيه عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول عند مضيق المدينة فقال: فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك، فأذن له فأرسله حتى دخل المدينة.[73]

وجرت حادثة الإفك حول أمنا عائشة رضي الله عنها التي كانت عفتها كعفة حوريات الجنة، والتي أكدت الآيات فيما بعد هذه العفة عند العودة من هذه الغزوة.[74]

ز- عامل الليل في الأسفار

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار الليل لجميع أسفاره.. ففي الليل سر آخر، ثم ألا يوصيه القرآن -وإن كان من طرف خفي- بذلك؟ والرسول موسى عليه السلام قاد المؤمنين ليلاً للهروب معه، لأن الله تعالى قال له: ﴿فَأسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ (الدخان: 23)، وأصدر الأمر نفسه إلى النبي لوط عليه السلام: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَد﴾ (هود: 81)، وعندما أسري بسيد الأنبياء، ثم بدأ بسياحته السماوية التي تجاوز فيها جبريل عليه السلام، كان هذا الإسراء ليلاً: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).

وهناك سفر ليلي لكل نبي تقريباً، فالمنازل تقطع بالليل وتصبح تلك الليالي ليالي الوصول والقرب إلى الله. والله تعالى يقسم بالليل في كثير من آياته، فأعمال البر والخير الوضيئة التي تعمل في ظلام الليل البهيم تجعل الليل أضوأ من النهار وأكثر منه نوراً. يقول الشاعر المتصوف إبراهيم حقي الأرضرومي:

يا عين ما هـذا النوم؟ تعالي واستيقظي في الليالي

وتأملي.. تأملي سـير الكواكب في الليـالـي

فالذي يقطع المسافات يقطعها ليلا.. وفي الليل تبتل سجادته بالدموع عندما يخر للسجود.. هنا يستطيع روحه أن يرتفع ويقطع المسافات.. والذي تعودت جدران بيوته على سماع تأوهاته يستطيع التسلق إلى آفاق تقصر دونها المسافات.. أمثال هؤلاء يقطعون هذه المسافات في الليل.. والذين قطعوا هذه المسافات قطعوها ليلا، أما الذين ناموا في الليالي فقد بقوا في وسط الطريق. فإن كنتم تريدون الخلاص من عـذاب البرزخ، فلا تدعوا لياليكم دون تهجد.. لا تدعوها لأن الرسـول صلى الله عليه وسلم لم يدعها. يقول محمد إقبال: "بقيت عشرين سـنة في لُندن، في عالم الضباب، ولا أتذكر أنني تركت صلاة التهجد في أي ليلة من لياليها."

أجل، فمن يستغل الليل -حيث ينقطع كل صوت- سيجدكل كلام يتلفظ به صدى في وجدانه، وسيستطيع قطع المسافات. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع المسافات المادية والمعنوية في الليل، لذا كان يسافر ليلاً ويرتاح نهاراً وهكذا يفاجأ الأعداء به، إذ يرونه أمامهم فجأة فيذهلون ﴿فَإذَا نـزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ﴾ (الصافّات: 177).

وهذه الآية تعرض مقطعاً صغيراً من هذا المنظر. أجل، كان إذا نـزل في ساحة قوم أعداء بجيشه فهذا يعني أن أمر هؤلاء الأعداء يُعد منتهياً وساء صباحهم. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهاجم في السحر..[75] ففي السحر كانت تظهر معتقدات أهالي تلك المنطقة، وذلك عند قيامهم -وعدم قيامهم- برفع الأذان وإقامة الصلاة. فالسحر هو الوقت الذي تهب فيه نسائم التجلي، يقول الشاعر المتصوف إبراهيم حَقِّي:

تهب نسائم التجلي في السحر     فيا عينيّ! استيقظا عند السحر

وقت السحر مهم جداً لدى المؤمن، فهو الوقت الذي تهب فيه على المؤمن نسائم التجلي، وفيه يتهيأ لولوج عالم المعاني لأنه يتهيأ فيه للصلاة.

لذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار الفجر على الدوام، فبينما كان العدو ينهض من فراشه متثائباً، إذا به يرى المؤمن المتوثب نشاطاً أمامه. كانت هذه هي طريقته في أغلب الأحيان، فعندما هتف أمام أسوار خيبر: «الله أكبر! خربت خيبر!»[76] اهتزت هذه الأسوار، ولكن لم يدر أحد كيف وصل هذا الجيش إلى هناك، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم بغزواته بسرعة البرق، ويجد في سير متصل بحيث أن أسرع الجمال ما كانت تستطيع اللحاق به، وكانت غزوة بني المصطلق من هذه الغزوات السريعة. وعندما ذر النفاق بقرنه عند العودة من هذه الغزوة، رأى بفطنته الكبيرة أن أفضل وسيلة للحيلولة دون انتشار آثار فتنة النفاق هو إصدار الأمر بالسفر المتصل دون توقف. وبفضل هذا السير المتصل لم يجد المنافقون الفرصة لزيادة نار الفتنة،[77] ومع أن عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول كان يخطط في فكره أشياء وأموراً إلا أنه لم يجد الوقت الضروري لإنضاج أفكاره أو وضعها موضع التننفيذ. فالجميع كانوا في سير سريع وكأنهم يعدون عدواً، لقد تم الذهاب والإياب بهذه السرعة، فتعب الجميع تعباً شديداً، لذا فما أن أعطى لهم الإذن بالراحة حتى وقعوا نياماً حتى طلوع الشمس في اليوم التالي، ولعله المرة الأولى التي تم فيها أداء صلاة الصبح في الضحى.[78]

استمر هذا حتى السنة الخامسة للهجرة. لذا، علمت القبائل أن أيّا منها لن تستطيع الوقوف وحدها أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا قررت توحيد قوتها والوقوف معاً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا جمعوا قواتهم وتوجهوا إلى المدينة.

ح- وقعة الخندق أو الأحزاب

في شوال سنة خمس من الهجرة. عندما أجلي بنو النضير عن المدينة ذهبوا إلى خيبر واستقروا هناك، ولكنهم بدأوا هناك بتحريض أهل خيبر ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وأرسلوا بعض زعمائهم إلى قريش وإلى قبيلة غَطَفَان، وكانت هاتان القبيلتان تسعيان بكل جهدهما للقضاء على المسلمين وتخططان لهذا، لذا كانتا على استعداد للترحيب بأي اقتراح يأتي من أي جهة حول هذا الأمر. ثم التحقت بهما قبيلتا بني سليم وبني أسد وبني مرة وبني فزارة وبني أشجع وبني سعد. أي أصبح الوضع مشابهاً لما جرى في معركة شنق قلعة" التي جلب إليها الإنكليز أقواماً عديدة من هنود واستراليين وأفارقة.. إلخ

اتفق اليهود والقبائل العربية المشركة للقضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين. وأخيراً اتفق هؤلاء الأعداء على السير نحو المدينة بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل. كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل من قبل عن طريق شبكته الاستخبارية القوية على أنباء تلك الحشود، لذا جمع أصحابه واستشارهم حول خطة الحرب المقبلة، واختار من بين الاقتراحات المتعددة اقتراح سلمان الفارسي إذ أعجبه هذا الاقتراح الذي كان يقضي بحفر خندق حول المدينة ثم خوض معركة دفاعية من خلف هذا الخندق. وهذا التكتيك كان جديداً لم يشهده أحد حتى ذلك الحين هناك، وكانت قريش وحلفاؤها ينتظرون خوض معركة شبيهة بمعركة بدر أو أُحد، بينما كانت في انتظارهم مفاجأة واستراتيجية لم تخطر على بالهم قط. ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم حراساً حول موضع الحفر فمنع بذلك تسرب خبر أعمال الخندق، فهؤلاء الحراس ما كانوا ليسمحوا لأحد في المدينة أو لما حواليها بالتجول هناك، فتم الانتهاء من حفر الخندق في ظل من السر والكتمان، لذا عندما اقترب جيش الكفار من المدينة فوجئوا عندما وجدوا هذا الخندق أمامهم وذهلوا وأسقط في أيديهم.

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثلاثة آلاف من أصحابه بحفر الخندق، واشترك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحفر، وكانت حصة كل رجل القيام بحفر طول ذراع من الخندق، وتم توزيع العاملين إلى مجاميع، كل مجموعة تضم عشرة منهم، وبدأت المنافسة بين هذه المجاميع. كان عمق الخندق معيراً بحيث أن الفارس إن سقط في ذلك الخندق لم يستطع الخروج منه مع فرسه، أما عرضه فكان بحيث لا يستطيع أمهر فارس قطعه قفزاً بفرسه.

هذا الخندق مطمور الآن تماماً، وكم كنا نتمنى لو بقي على حاله لنشاهد ذلك الخندق الذي شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفره وفي نقل ترابه، ولا ندري مدى الصحة في الآثار الباقية لذلك الخندق، ولكن إن قام أحد المختصين بالعلوم العسكرية بتدقيق هذه الآثار وقال: "أجل، من المحتمل أن يكون الخندق هنا" عند ذلك يجب الاهتمام جدياً بهذا الموضوع.

أجل، شارك الرسول صلى الله عليه وسلم بأعمال حفر الخندق ترغيبا للمسلمين وحثهم على طلب الأجر، فدأب فيه ودأبوا، وكان تصرفه هذا عامل تشويق ومنبع إثارة لهم على العمل، وكان يشوقهم أحياناً على المنافسة والتسابق، ويثني على المهاجرين تارة وعلى الأنصار تارة أخرى.

كان جنوده من الصحابة جائعين، قد ربط كل واحد حجراً على بطنه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فحجرين، ولكن لم يكن للجوع ولا للعطش أن ينال من عزيمتهم ومن همتهم، بل كانوا ينشدون:

نحن الذين بايعوا محمداً      على الجهاد ما بقينا أبداً

وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم:

اللّهم لا عيش إلا عيش الآخرة      فاغفر للأنصار والمهاجرة

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشترك أحياناً معهم في هذا النشيد، وأحياناً يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا      ولا تـصدقنـا ولا صلينـا

فـأَنـزلـنْ سكينة علينا      وثبت الأقـدام إن لاقيـنا

إن الأُلَى قد بغوا عليـنـا      وإن أرادوا فتنة أبـيـنـا

ورفع بها صوته: أبينا أبينا.[79]

عندما قام الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بتنظيم الصفوف جعل قمة تل سَلْعٍ[80] خلف ظهره، وأرسل النساء والأطفال إلى ملاجئ حصينة.[81] إني لست رجلاً عسكرياً، ولكني أعتقد أن تكتيك الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح من جميع جوانبه ولاسيما قيامه بإسناد ظهره إلى جبل سَلْعٍ، علما بأنه اتخذ هذه القرارات تواً ودون أي تباطؤ أو تفكير طويل، ومع ذلك كانت كلها قرارات صائبة.

عندما اتخذت وسائل وتدابير الدفاع عن المدينة وضع في الحساب احتمال قيام بني قريظة بالهجوم، لذا أودع الدفاع عن تلك الجبهة إلى جماعة من الصحابة على رأسهم سلمة بن أسلم.[82] أجل، لقد أخذ جميع الاحتمالات بنظر الاعتبار ولم يترك أي أمر للصدف.

كان هناك موضع ضيق في الخندق، يستطيع الفارس الماهران كان فرسه أصيلاً أن يقطعه قفزاً.[83] وقد يبدو هذا في الوهلة الأولى إهمالا، ولكن الأمر ليس كذلك، فقد تبدت هنا أيضا الفطنة المذهلة للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أن أشجع فرسان المشركين وأفضلهم سيحاولون وسيجربون قطع الخندق قفزاً من هذا الموضع وسيجدون أنفسهم وسط المسلمين، ولم يحس أحد بهذا في أول الأمر، ولكن بعد مرور بعض الوقت وحدوث بعض التطورات وقع ما توقعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بدأ أشجع المحاربين تجربة حظوظهم، وهلكوا واحداً إثر آخر.

ثم إن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد وُدّ أحد بني عامر بن لُؤَيّ وضِرار بن الخطاب بن مِرداس أحد بني مُحارب بن فهر وعكرمة بن أبي جهل وهُبيرة بن أبي وهب المخزومي تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيؤا يا بني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم؟ ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقعوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إنها لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكانا من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.[84] كان عمرو بن عبد ود أول من عبر الخدق، ومع أنه كان متقدماً في العمر إلا أنه كان يعد معادل مائة محارب، طلب مبارزاً فخرج إليه علي، فلما رأى أمامه شاباً حدثا استهزأ به، ونـزل عن فرسه لأنه لم ير من اللائق بسمعته أن يقاتله وهو على ظهر الفرس، وبعد أن ضرب بسيفه فرسه وعقرها وقف أمام علي، وبدأت المبارزة حيث قام عمرو بالضربة الأولى التي كانت ضربة شديدة، واستقبلها عليّ فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وقابله علي بضربة قوية على كتفه مع تكبيرة أعقبتها تكبيرة المسلمين، ولو لم يمت عمرو من ضربة سيف علي رضي الله عنه لمات من شدة تكبيرة المسلمين. وهز موت عمرو المشركين، كما أحدث فرحاً غامراً بين المسلمين ورفع معنوياتهم.[85]

وبعد عمرو جاء ضِرار وعكرمة وهُبيرة ولكنهم لم يصمدوا أمام ضربات علي رضي الله عنه فهربوا،[86] وأخيراً أقبل نوفل بن عبد الله المغيرة المخزومي وكان من أشهر المقاتلين والفرسان عند العرب واستطاع عبور الخندق إلى الجهة الأخرى، فاستقبله علي -أو يقال الزبير بن العَوّام- ولكن نوفل سقط في الخندق وهو يحاول الهرب من علي، فبدأ المسلمون يقذفونه بالحجارة، وبدا لنوفل أن الموت بالحجارة لايليق به فصاح: قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنـزل إليه علي فقتله.[87] وكان هذا اليوم أشد أيام الحصار، ولكن عندما مر شهر فقد الحصار قوته ووهنت العزائم، إذ لم يكن من الهين إطعام عشرة آلاف من المقاتلين وتلبية احتياجاتهم.

عندما رأى بنو قريظة أن المشركين لم يستطيعوا اقتحام الخندق، وأن من فعل هذا منهم قُتل قرروا الهجوم على الحصن الذي وضع المسلمون فيه نساءهم، وأرسلوا أحدهم قبل الهجوم ليتجسس لهم، وقد لمحت صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اليهودي وهو يتجول حول الحصن، فكمنت له ثم هاجمته فجأة وقتلته وجلبت سلاحه إلى الحصن، وعندما رأى اليهود أن الرجل الذي أرسلوه قتل توهموا وجود قوة عسكرية هناك فتخلوا عن فكرة الهجوم.[88]

كان أعداء الإسلام قد جاءوا وهم واثقون من أنفسهم كل الثقة، سينهون أمر المسلمين في بضعة أيام ثم يرجعون، ولكنهم أخطأوا في حساباتهم خطأ كبيراً، وعندما أدركوا ذلك لم يبق أمامهم سوى الرجوع وهم يجرون أذيال الفشل والخيبة.

وجرت الأقدار في أثناء الحصار ضد الكفار، فقد كان الشتاء على الأبواب وما كان سكان مكة يتحملون برد شتاء المدينة، ثم إنهم لم يكونوا قد تهيأوا للشتاء. وبدأت الريح تهب عليهم أياماً وليالي، ثم انقلبت هذه الريح إلى إعصار قوي بدأ يقوض الخيام ويقلب القدور، وما كان بإمكان المشركين أن يتحملوا أكثر، وهذا ما كان، لذا أصدر أبو سفيان أمره بالرجوع وهو كاره.[89]

1. يوم الخندق في القرآن

يتحدث القرآن الكريم عن معركة الخندق تفصيلاً. فإذا أحببتم فإننا نستطيع متابعة تلك المعركة بين سطور الآيات، ثم نشير إلى الدهاء العسكري الذي أبداه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة.

يقول القرآن الكريم حول هذه المعركة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاؤُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً﴾ (الأحزاب: 9-15).

وأشار القرآن إلى معنويات المؤمنين: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ اْلأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ (الأحزاب: 22).

وكقاعدة عامة فإننا لن ندخل إلى التفاصيل التاريخية الموجودة في كتب السير، بل نتعرض لبعض هذه التفاصيل بالعرض، وهدفنا الأساسي إبراز ناحية الرسـالة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإظهارها، إذ كان صاحب فطنة ذات أبعاد متعددة، وأحد هـذه الأبعاد هـو بعده في الناحية العسكرية. فكما أوضحنا فقد أعطى أنموذجاً رائعاً في القيادة العسكرية في معركتي بدر وأُحد -على الرغم من قصر باعنا في هذا الموضوع، لأنه خارج اختصاصنا- ولنا كلام موجز حول معركة الخندق أيضا لتوضيح كيف كان صلى الله عليه وسلم عسكرياً لا مثيل له في هـذه المعركة أيضاً، فمعركة الخندق شـاهد ومصدق لحكمنا هـذا.

لقد تم إحراز نصر مؤزر في معركة الخندق التي حدثت في ظروف صعبة جداً، وتطورت الظروف التي هيأت النصر فيما بعد حسب ما علمه الله تعالى لرسوله. وقد استوعب الرسول صلى الله عليه وسلم بفطنته العظمى هذه الظروف وأحوال المعركة التي علمها الله تعالى له بالوحي أو بالإلهام، ثم تصرف على ضوئها أفضل تصرف، وطبق ما علمه أفضل تطبيق في معركة كانت الظروف فيها صعبة جداً في النطاق البشري، لذا كان الوصول إلى النصر أمراً بالغ الصعوبة بل كان قريبا من الاستحالة، لذا فسنلقي نظرة على التكتيك الذي استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة التي تعد شاهدة على أن "محمد رسول الله".

2. ما وراء معركة الخندق

1) كان عدد جنود العدو عشرة آلاف مقاتل، بينما كان جيش المسلمين عبارة عن ثلاثة آلاف مقاتل، أي أن العدو كان ثلاثة أضعاف المسملين، وهذا يعني أن على كل مسلم مقاتلة ثلاثة من المشركين، لذا كان تحويل هذه المعركة من معركة ميدانية وجهاً لوجه إلى معركة دفاعية فطنة وذكاءاً كبيرين. وكما قلنا سابقاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يكرر أي تكتيك مع العدو مرتين، وهذا ما رأيناه في الخندق.

2) لعب الخندق في تلك المعركة دوراً كبيراً في إيقاف العدو، لأن قريشا وحلفاءها لم يدر بخلدهم أبداً أنهم سوف يلقون مثل هذه المفاجأة التي أذهلتهم وقلبت حساباتهم.

3) إن جعل جزء صغير من الخندق ضيقاً بعض الشيء بحيث يستطيع أن يعبره الفرسان الماهرون علامة دهاء وفطنة، لأنه أمكن بهذا اصطياد أمهر وأشجع وأقوى فرسان العدو مما أدى إلى ضعضعة الروح المعنوية لدى العدو، وارتفاع الروح المعنوية عند المسلمين.

4) عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق بين المسلمين، وكان هذا دعماً وسنداً معنوياً لهم، وعندما صادفهم حجر قوي لم يستطيعوا كسره قال: «بسم الله» وضرب ضربة، فلمع بريق تحت الضربة فقال: «الله أكبر! أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله»، ثم ضرب ضربة ثانية فلمع بريق من ضربته فقال: «الله أكبر! أُعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض»، ثم ضرب الثالثة فبرق أيضا بريق تحت الضربة فقال: «الله أكبر! أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة.»[90]

وهذه الكلمات التي قالها حينذاك أكسبتهم معنوية عالية بحيث لو اجتمع عليهم العالم كله -وليس عشرة آلاف فقط- لما ترددوا في قتاله.

5) إن اختيار علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمقاتلة الفرسان الذين عبروا الخندق اختيار موفق يدل على الفطنة ويدل على أنه كان يعرف من يختار وأين يختاره.

6) وضع المنافقين تحت مراقبة دقيقة بحيث لم يمكنهم من إلحاق أي أذى أو سوء مع أنهم كانوا يرغبون في ذلك، وهذا يدل على فطنته في اتخاذ التدابير الضرورية في درء الأضرار ومنعها.

7) كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى إلى إطالة أمد المعركة ما أمكنه ذلك، ونجح في ذلك، واستفاد من إطالتها فوائد عديدة نستطيع أن نعدد بعضها:

الأولى: كان الوقت مقبلاً على موسم الشتاء، ولم تكن قريش وحلفاؤها قد استعدوا للشتاء، فلو بقوا أكثر لأنهى الشتاء أمرهم، وعندما يفكون الحصار ويذهبون، يذهبون وقد ضعفت قواهم وتداعت.

الثانية: كان العدو مضطراً إلى العناية بعشرة آلاف من المقاتلين وإطعامهم كل يوم، وكلما زادت المدة وتوالت الأيام دخلوا إلى أزمة مالية أكبر، وعندما اتحد الجوع والظمأ والبرد، أصبح الوضع غير محتمل بالنسبة لهم.

الثالثة: لم يكن من المتوقع أن يستمر الحلف في جبهة العدو طويلاً، هذا الحلف الذي كان حلفاً مصطنعاً قام على أساس واحد، وهو اشتراكهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان مرور كل يوم يُضعف هذا الحلف، بينما كانت جبهة الإسلام تقوى على مر الأيام وتزداد تراصاً ووحدة.

الرابعة: كان هناك زعماء عديدون في جبهة العدو، ولم يكن أي واحد منهم قادراً على أن يُسمع كلامه للآخرين ولا أن يجعل الآخرين يطيعونه، كانوا يشبهون الجيوش الصليبية، كان أبو سفيان -من الناحية النظرية فقط- هو قائد جبهة العدو وجيشه، ولكن هذا كان في الظاهر فقط، وكلما مرت الأيام بدأ الشقاق يدب بين هؤلاء الزعماء والأنداد وتتزايد النـزاعات بينهم.

8) كان نُعيم بن مسعود رضي الله عنه قد أسلم سراً، وأوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخفي إسلامه مدة، حيث كلفه بالقيام بمهمات كبيرة وخطيرة جداً.

كان نُعَيْم شخصاً تحترمه وتثق به قريش واليهود كذلك، وقد أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الحرب خدعة وطلب منه أن يخذل الناس عنه، لذا ذهب نعيم إلى بني قريظة وكان نديما لهم في الجاهلية وقال لهم:يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغَطَفَان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغَطَفَان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه. قالوا: لقد أشرت بالرأى.

ثم ذهب وأتى قريشاً فقال لأبي سفيان ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عني، قالوا: نفعل. قال:تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغَطَفَان رجـالاً من أشـرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسـل إليهم أن نعم، فـإن بعثتْ إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجـلاً واحـداً.

ثم ذهب إلى غَطَفَان وحذرهم التحذير نفسه، فلما طلب اليهود منهم الرهن قالت قريش وغَطَفَان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحقّ. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ. وأصروا على طلب الرهائن وأبت قريش وغَطَفَان ذلك وخذل الله بينهم.[91]

لم يكن قد مضى على إسلام نعيم بن مسعود سوى بضعة أيام، فانظروا إلى فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ عرف أن نعيماً سيستطيع القيام بهذه المهمة الكبيرة وأنه أهل لها، وفعلاً قام نعيم بأداء تلك المهمة أفضل أداء.

9) كانت الرياح والعواصف قد بدأت تضرب العدو ضربات موجعة، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليعلم أحوال العدو واختاره لأداء هذه المهمة، فقد كان مستودع أسرار الرسول صلى الله عليه وسلم وكان معروفاً بدقة تنفيذه للأوامر، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسله: «يا حُذيفة! اذهبْ فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تُحدِثنّ شيئاً حتى تأتينا.»

وتسلل حُذيفة إلى القوم ودخل بينهم، وسنحت له فرصة كان يستطيع فيها قتل أبي سفيان، إذ كان أبو سفيان قد أدار ظهره له، وقد حدثته نفسه للحظة أن يصيبه بسهم ويقتله، ولكنه تذكر توصية الرسول صلى الله عليه وسلم له بألا يحدث شيئا حتى يرجع فتخلى عن تلك النية، أما أبو سفيان فكان يهتف على الدوام: الرحيل! الرحيل! كان من الواضح أن قريشاً وحلفاءها كانوا يتهيأون للرجوع وهم يجرون أذيال الفشل.

ويشرح القرآن الكريم حالهم الأليمة هذه فيقول: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً﴾ (الأحزاب: 25).

وعندما بدأ حُذيفة بالرجوع رأى هناك فرساناً عليهم عمامات بيضاء وملابس بيضاء، كانوا يتجولون بين الكفار فقال أحدهم لحُذيفة: "أخبر صاحبك أن الله قد كفاه" وعندما أخبر حُذيفة الرسول صلى الله عليه وسلم بخبرهم قال بأنهم الملائكة.[92]

10) احتفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيادة في يده على الدوام، ولم يترك جبهة القتال طوال أيام الحصار ساعة واحدة.. تصرف كأي فرد منهم، وشارك جيشه في جميع مشاكله وساعات ضيقه، وهذا يشير كيف أن قيادته كانت في الذروة على الدوام.

11) كان مجموع الشهداء من المسلمين في مثل هذه الحرب الصعبة ستة شهداء فقط.[93]

12) قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ختام هذه الحرب: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا.»[94] وقد صدقت الأيام قوله هذا.

عندما تذكر معركة الخندق نجد أن هناك حادثتين مهمتين لا يمكن إهمالهما، إحداهما هي وفاة الصحابي الجليل وسيد الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه[95] والحادثة الثانية أداء الرسول صلى الله عليه وسلم أربع صلوات قضاءً.[96]

في الحادثة الأولى جرح سعد بن معاذ رضي الله عنه في ذراعه، وبدأ الجرح ينـزف دون توقف، واهتم الرسول صلى الله عليه وسلم به فنصب له خيمة داخل المسجد، وكان يزوره على الدوام، كما كان الآخرون يزورونه أيضا ويبقون بجانبه، ذلك لأنه لم يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أن اهتدى إلى الإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعده شخصاً مميزاً، لذا عندما تم تعيينه حَكما في موضوع بني قريظة جيءَ به محمولا على مركب لأنه كان جريحا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم فأنـزلوه.» ولم يقصر سعد رضي الله عنه في الإخلاص والوفاء للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عاش مخلصاً وفياً، ومات مخلصاً وفياً.. هذا الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر:

"...فصِلْ حِبال من شئتَ واقطعْ حبال من شئت وعادِ من شئت وسالِمْ من شئت وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذتَه منا كان أحب إلينا مما تركتَ علينا، وما أمرتَ به من أمر فأمرنا نتبع لأمرك، فواللهِ لئن سرتَ حتى تبلغ بَرْك الغِمَاد لَنسيرنّ معك."[97]

وفي ساعاته الأخيرة كان يدعو قائلاً: "اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه.. اللهم فإني أظن أنك قد وضعتَ الحرب بيننا وبينهم.. فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك.. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وببينهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة."[98]

كانت المعركة قد انتهت ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ولكنه ما أن خطا خطوة إلى داخل البيت حتى ظهر له جبريل الذي سأله: "أوَ قد وضعتَ السلاح يا رسول الله؟" قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «نعم.» فقال جبريل: "ما وضعتْ الملائكة السلاح بعدُ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة."[99] على إثر هذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى بني قريظة، ولكي يعلمهم بمدى أهمية السفر ووجوب الإسراع فيه فقد عزم عليهم ألا يصلوا العصر إلا هناك.[100]

كان بنو قريظة قد خانوا المسلمين -ولاسيما في أثناء معركة الخندق- وأرادوا طعنهم من الخلف، وأرسلوا من يتجسس لهم حول حصن النساء لكي يقوموا بالهجوم عليه، ولكنهم لم يجدوا الفرصة المواتية لذلك، هذا مع العلم أنهم كانوا قد اتفقوا وتعاهدوا مع رسول الله، نكثوا العهد وأعلنوا الحرب على المسلمين.

ولم يقف ذنبهم عند هذا الحد، بل فتحوا قلاعهم وحصونهم لاستقبال أعداء المسلمين -مثل حُيَيّ بن أخطب- الذين كان من المُبعدين السياسيين من قبل المسلمين، مع أن مثل هذا التصرف كان يُعد انتهاكاً للعهد.

بالرغم من كل هذا فلو اعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم عندما أقبل إليهم وطلبوا منه العفو لكان من الممكن أن يصفح الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم، ذلك لأنه كان يميل على الدوام إلى التعايش الجيد معهم، غير أنهم سلكوا سلوكاً معادياً للمسلمين وللرسول صلى الله عليه وسلم، فقد عشعش السوء في سويداء قلوبهم. وعندما أسقط في أيديهم استسلموا، ولكن بشرط واحد وهو أن يكون سعد بن معاذ رضي الله عنه هو الحكم في قضيتهم. وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم شرطهم هذا، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه من فراش المرض، وجاء إلى الموضع الذي ينتظرونه فيه وهو راكب على حمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم!» (أو قال خيركم)، فقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء نـزلوا على حكمك»، فأصدر حكم التوراة عليهم وهو أن يقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، ولم يكن أمام الطرفين إلا قبول هذا الحكم.[101] وهكذا تطهرت المدينة من فتنة أخرى وأصبحت هي وما حواليها بلداً آمناً.

وهكذا حقق الله تعالى رغبة سعد بن معاذ وقبل دعاءَه.. وبعد فترة قصيرة نـزف جرحه وتوفي إلى رحمة الله تعالى.. كان قد استعجل الخروج إلى الحرب، فلبس درعاً تبين أنه ضيق عليه، لذا بقيت كتفاه عاريتين، وهناك أصيب بسهم سبب وفاته واستشهاده فيما بعد.

ط- الغزوات الأخرى

ألقينا نظرة سريعة حتى الآن على ثلاث غزوات من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم البالغة ثماني عشرة غزوة،[102] وحاولنا تدقيق الناحية العسكرية لدى الرسول صلى الله عليه وسلم. والآن سنلقي نظرة سريعة وبشكل عناوين رئيسة على غزواته الأخرى لنشاهد ألوانا من فطنته الكبيرة.

عندما دققنا صلح الحُديبية رأينا كيف استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بإدارته الممتازة حل جميع المشاكل والمصاعب، كان من المؤكد وقوع حرب في الحُديبية، غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع تجنب الدخول في حرب لا يوجد فيها أي توازن بين القوتين، ففي الجبهة المعادية كان هناك أضعاف عدد المسلمين، على رأسهم رجال أمثال خالد بن الوليد وعكرمة، بينما كان عدد الصحابة يقارب 1400 شخص غير مسلح[103] قد أحرموا يريدون أداء العمرة، فاستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم تجنيب أصحابه معركة قاسية وصعبة جدا، واستطاع بفضل من الله وعون منه أن ينهي هذه الأزمة بالنصر.

وقعت حادثة الحُديبية في السنة السادسة للهجرة، أي في وقت كانت مشاعر الشوق والحنين إلى مكة قد استولت على قلوب المهاجرين.. وحتى أبو بكر رضي الله عنه وهو صاحب الإرادة الحديدية تأثر من فراق مكة تأثراً كبيراً وأنشد:

كل امرئ مصبِّحٌ في أهله      والموت أدنى من شراك نعله

فمثلا بلال الحبشي -مع أنه لم يكن من مكة بل من الحبشة- عندما أقام بمكة أحبها إلى درجة أنه عندما هاجر إلى المدينة وأصابته الحمى هناك، بدأ يحن إلى مكة ويقول:

ألا ليت شِعري هل أبيتنّ ليلة     بوادٍ وحولي إذْخـِرٌ وجـَلـِيـلُ

وهـل أَرِدَنْ يومـا مياه مجنة     وهـل يَبدُوَنْ لي شامَةٌ وطَـفِيل [104]

واشتكى عامر بن فُهير مولى أبي بكر رضي الله عنه فقال:

إني وجدت الموتَ قبل ذوقه      إن الـجَبان حَتْفُه من فوقه[105]

كان الشوق إلى الوطن قد استولى على جميع القلوب.. الشوق إلى مكة أم القرى.. كان قد مر على فراقها ست سنوات لم يستطيعوا فيها الطواف حول الكعبة، بينما كان جدهم إبراهيم عليه السلام قد قام بإصلاح الكعبة وتعميرها: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 96).

والكعبة التي تشير إليها هذه الآية كانت أول بناء على الأرض بناها آدم عليه السلام، بناها أول نبي وأصلحها خليل الرحمن.. والآن كان الكفار يبعدون عنها أفضل أولاد إبراهيم عليه السلام وهو محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتمر ست سنوات كاملة لا يستطيع فيها هذا النبي الكريم المشتاق إلي زيارتها والطواف حولها.. لم يكن يريد شيئا كثيراً.. كل ما كان يطلبه هو أن يسمح له ولأتباعه القيام بالطواف حول الكعبة بالكيفية التي وضعها الإسلام.

كانت الكعبة آنذاك مملوءة بالأصنام، كما كانت هناك أصنام عديدة حول الكعبة، كان طواف المشركين حول الكعبة شيئاً يدعو إلى السخرية ويخلو من معنى الطواف، لذا وصف القرآن طوافهم هذا بأنه مُكاء وتصدية،[106] كانوا يصفقون بأيديهم ويصفرون، وكانت النساء يطفن -ولاسيما في الليل- عاريات قد خلعن ملابسهن بحجة أنه لا يجوز الطواف بالملابس التي اقترفن الذنوب فيها.[107] كان طوافاً للرجال والنساء مختلفاً تماماً مستنداً إلى أسس أخرى لعهد آخر يصعب علينا فهمه وشرحه.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يود بيان كيف يكون الطواف وكيف تؤدى العمرة، كان هذا هو غايته الأولى، أما الثانية فهي إظهار أن الكعبة ليست ملكاً للمكيين أو القرشيين فقط، وأن للآخرين أيضا حقاً فيها. والحقيقة أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سيعيد إلى الكعبة شرفها وشهرتها ومجدها ولجماعته المقدسة حقاً أكبر من الآخرين، والكعبة كانت قد أصبحت منذ مدة طويلة مثل محراب فارق منبره، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقرب المنبر الذي وضعه في المدينة من المحراب، ذلك لأن الكعبة هي محرابنا الأبدي ومحراب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أي أحد، وقد توجه فترة من الزمن في صلاته إلى المسجد الأقصى لوجود الأصنام في الكعبة، ولكن نظره كان يتقلب في السماء إذ لم يكن يتحمل صرف وجهه عن الكعبة، فأنـزل الله تعالى إليه يسري عنه ويبشره: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ (البقرة: 144).

كانت الفترة التي قضاها متوجهاً في صلاته إلى المسجد الأقصى فترة غربة وهجران بالنسبة إليه.. كانت الكعبة محرابه والمدينة منبره.. لذا، كان من الضروري أن تكون الكعبة في يد المؤمنين، وكان أداء العمرة يعد الخطوة الأولى في هذا السبيل، لذا كان يخطط لأداء عمرة على الأسس الإسلامية وحسب العقيدة الإسلامية وروحها وفكرها. لم يكن الحج قد فرض بعد، لقد فرض الحج في أواخر حياته! لذا، أدى فريضة الحج مرة واحدة، وأطلق القرآن الكريم على ذلك الحج اسم "الحج الأكبر"[108] وعلى العمرة "الحج الأصغر".

وقد انتشر بين جمهور الناس أن الحج الأكبر هو الحج الذي يصادف يوم عرفة فيه يوم الجمعة، ولكن اسم الحج الأكبر يطلق على الحج الذي يؤدى في أثناء موسم الحج، أما الحج الأصغر فيطلق على العمرة.

والغاية الثالثة له صلى الله عليه وسلم كانت إظهار جماعته المباركة للقبائل، وأنها عندما تمر لا تقوم بإيذاء أحد في طريقها، ولا تمس أحدا بضرر.. فلا تدخل بستان أحد، ولا تنهب داراً أو ملكاً لأحد.. سيرى الجميع أن هذا الجيش بعيد عن هذه الأمور، بينما كان من المعتاد آنذاك أن أي جيش بمثل هذه القوة يقوم بأعمال السلب والنهب، بينما كان هذا الجيش جيش السكينة والاطمئنان.. فهم كانوا يمثلون الإسلام في هذا الحج أمام العرب جميعاً، وكان هذا شيئاً مهماً جداً وإيصالاً لرسالة الإسلام إليهم، لأن الذين شاهدوهم كانوا يقولون في أنفسهم في الأرجح: "ما هذا؟ نحن لم نر حتى الآن مثل هؤلاء الناس.. إنهم أشبه بالملائكة."

كانت هذه هي أهداف النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى مكة، لذا فلم يأخذ الصحابة معهم سوى السيوف في القرب، ولم يحدث أي شيء حتى وصولهم إلى الحُديبية، وهنا جاء من يقول لهم أن قريشاً ستمنعكم بكل ما أُوتيتُ من قوة ومن بأس، بينما لم يكن جيش السلام يريد حرباً ولا قتالاً، لأنهم لم يأتوا للحرب ولا للقتال، لذا اغتم الرسول صلى الله عليه وسلم وحزن من هذا الموقف، فقد وعد أصحابه بأنهم سيؤدون العمرة.. وجاء الصحابة معه وهم في شوق لأداء شعائر العمرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الأسس والقواعد الإسلامية، فما فعلوه سابقاً في جاهليتهم لم يكن حجاً ولا طوافاً، والآن هاهم قد اقتربوا من أداء هذه الشعائر على أساس إسلامي وتحت إرشاد وحي السماء وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوقف في الحُديبية وأمر أصحابه بالتوقف، أمر بذلك على الرغم من إيمانه بنفسه وبشجاعة أصحابه، كان يعلم أنه لو التجأ إلى الله تعالى وتوكل عليه وقاتلهم فسيغلبهم، غير أنه لم يفعل ذلك وفضل الانتظار، وعندما وصل المنع والعرقلة مرحلة معينة تبايع مع أصحابه.. تبايع على القتال حتى الموت في سبيل الإسلام.. هذه البيعة التي باركها الله تعالى من فوق سبع سماوات: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنـزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (الفتح: 18-19).

علم الله تعالى ما في قلوبهم، فلو قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم موتوا، لماتوا، ولو قال لهم: ابقوا، لبقوا، ولو قال لهم قوموا، وطوفوا بالكعبة، لفعلوا ما أمرهم ولو لم يملكوا السلاح الكافي.

وأنـزل الله سكينته عليهم.. فقد وعدهم -جزاء شهامتهم هذه- فتحاً قريباً، وهذا ما قاله لهم في القرآن. شيء واحد لم يتحقق كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع، ولكنه تحقق بعد سنة واحدة، حيث جاءوا وطافوا بالكعبة حسب الشعائر الإسلامية واستلموا الحجر الأسود، أما ما سوي ذلك فقد تحقق جميعه، وشهدت البادية وتأكدت أن هذا الجيش يزرع الأمن والطمأنينة في كل مكان يمر فيه.. فهذا الجيش الذي خرج من المدينة متوجهاً إلى مكة مر بالكثير من القرى وخيام البدو والتقى بالكثير من الناس، وهذا الانطباع الجيد الذي زرعه في القلوب سيثمر، وسيلحق الكثير منهم بالمسلمين بعد سنتين أو ثلاث، وسيتوجهون معهم لفتح مكة. ثم إن قريشا وجميع المشركين الآخرين عرفوا أن الكعبة ليست ملكاً لقريش وحدها، بل إن للجميع حقاً فيها وفي مقدمتهم فخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم وصحابته.

والحقيقة أن قريشا اضطرت إلى قبول هذه الحقيقة في معاهدة الصلح التي وقعت عليها كما وقع عليها الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: "وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القِرَب لا تدخلها بغيرها."[109]

كان هذا اعترافاً بالمسلمين كجماعة لها كيان خاص، بينما كان المفهوم السائد حتى آنذاك أن مكة والكعبة ملك للمشركين ولاسيما لقريش، واقنعوا الجميع بهذا، وكان على الجميع الانقياد إلى الشعائر التي وضعها المشركون، وما كان لأحد أن يضع شعائر خاصة ومختلفة، بينما كان من ضمن شروط معاهدة الحُديبية حرية المسلمين في أداء الحج والطواف حول الكعبة بشعائرهم الخاصة بهم. وهكذا حصل الرسول صلى الله عليه وسلم على مثل هذا النصر مع أن عدد أصحابه كانوا لا يتجاوزون 1400 صحابياً أمام جيش أكبر منهم بكثير.. النصر والنجاح في فتح قلوب الآخرين وفرض نفسه على الجميع.

فمثلاً قام عروة بن مسعود وسُهَيْل بن عمرو ممثلين عن قريش بالتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عندما شاهدا مدى ارتباط الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم وحبهم له، وشاهدا تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم وشخصيته المهيبة وإيمانه القوي العميق بالله تعالى وخشيته ومخافته منه وأحوال النبوة عليه تأثرا من ذلك تأثراً عميقاً وذاب الجليد المتراكم في قلوبهما وتغيرت زاوية نظرهما وأصبحا مرشحين لقبول الإسلام في مستقبل قريب. وعندما رجعا إلى مكة أزالا الموقف المتعنت والصلب لقريش تجاه المسلمين وخففا جو الكراهية نحوهم، وهكذا فإن جو التسامح الموجود في الإسـلام، وجو التعنت والعـنـاد لـدى المشركين كان يؤدي إلى تغيير في مواقف البعض، وكانت هناك أمثلة حية على هذا.[110]

أجل، فالحائرون كانو يلتحقون بصف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً إثر آخر. وقد تكون الحُديبية نوعاً من التراجع إلى الخلف في الظاهر، ولكنها كانت في الحقيقة نصراً له ثمرات عديدة، ثم كان هناك أمر أمنِ جانبِ قريش وأمنِ هجومها وشيء آخر: فقد تكوّن حِلف في هذا الصلح، إذ تحالف بنو بكر مع قريش وتحالف بنو خُزاعة مع المسلمين، وكان من مقتضى الصلح ألا يهاجم أي طرف الطرف الآخر، وهذا أفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً.. إذن، فقد كانت هناك عشر سنوات من السلام في البادية يستطيع خلالها إسماع صوت الإسلام وإيصاله إلى قبائل عديدة.

1. خيبر رأس الفتنة

ما إن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحُديبية حتى توجه نحو خيبر التي كانت بمثابة دملة ورأس فتنة، فاليهود كانوا يغلون الفتن هنا، فأحياناً يتفقون مع بني النضير أو مع غَطَفَان أو مع قريش، كانوا على الدوام يحيكون المؤآمرات والفتن ضد المسلمين ويضعون خطط القضاء عليهم، كانوا هم الذين حرضوا قريشاً، فأصابعهم كانت موجودة في معارك أُحد والخندق.

لقد آن وقت تأديب هؤلاء، لذا هيأ الرسول صلى الله عليه وسلم غزوة فجائية وسريعة ضدهم، والذين أتوا إلى خيبر هم الصحابة الذين لم يتمكنوا من أداء شعائر العمرة، وكانوا يريدون أن يسدوا بالجهاد هذه الفجوة.

أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بعضاً من صحابته إلى غَطَفَان لكونها حليفة لخيبر،[111] وقد حسبت غَطَفَان أنها هي المقصودة بالحرب، لذا فقد انشغلت بمشكلتها، وانقطعت صلتها ومساعدتها لخيبر، غير أن خيبر كانت هي الهدف الأصلي للرسول صلى الله عليه وسلم، وبينما كان يهود خيبر في قلق ويتساءلون: متى سيأتون إلينا؟! إذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يفاجئهم ويسير إليهم ليلاً فأصبحوا والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد أحاطوا بخيبر.

كان أهل خيبر في ذلك الصباح ينوون الذهاب إلى حقولهم وبساتينهم مثلما يفعلون كل يوم، لذا حملوا معهم المساحي والمعاول وعدد الزراعة، ولكن ما إن نـزلوا من حصونهم حتى تجمدوا في أماكنهم دهشة وذهولاً.. فقد رأوا أمامهم جيشاً مسلماً على رأسه الرسول صلى الله عليه وسلم.. وبعد أن تخلصوا من وقع المفاجاة بدأوا بالهروب والرجوع إلى الحصون.. في أثناء ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتف هتافات ترتج منها الأرض: «الله أكبر! خربت خيبر!»[112] أجل، لقد انتهت خيبر.. لم يكن هناك حل سوى الاستسلام، مع هذا احتاج الأمر إلى حيدر كرار يفتح باب خيبر أمام المسلمين.[113]

وهكذا تم فتح خيبر على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بشر بأنه سيعطي الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وكان هذا الرجل هو علياً المرتضى كرمَّ الله وجهه.[114] وهكذا استسلمت خيبر للمسلمين في مدة قصيرة وبأقل الخسائر.

كانت أمنا صفية بنت حُيَيّ رضي الله عنها من بين أسرى خيبر، وكانت محظوظة إلى درجة أنها أصبحت زوجة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ولهذه المرأة العظيمة إسهام كبير في الدعوة الإسلامية بين قومها بعد إسلامها،[115] واستعملت نفوذها ومكانتها السابقة في هذا المجال.

2. مفخرة مؤتة

وهذه الغزوة كانت غزوة مليئة بالبطولة وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم غائباً عنها. أجل، فلن نستطيع إهمال ذكر غزوة مؤتة، وهي الغزوة التي كانت سبباً في وصول اسم الإسلام إلى أسماع العالم. هذه الغزوة التي استشهد فيها أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودفنوا هناك، زيد بن حارثة ومن بعده جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جميعاً. استشهد هؤلاء كلهم في مؤتة وطاروا من هناك إلى الجنة. وتعد مؤته غزوة ظهر فيها الدهاء العسكري لخالد بن الوليد رضي الله عنه، وكانت أول معركة له في صف الإسلام أثبت نفسه فيها.[116]

أثناء فترة الصلح أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرسائل إلى الملوك ورؤساء الدول يدعوهم فيها إلى الإسلام، فكانت إجابة بعضهم إيجابية، وبعضهم سـلبية، وردّ بعضهم رداًّ قبيحاً تجاوز فيه حدود الأدب والليـاقة.[117]

كان رد شُرَحْبِيل أمير بُصْرَى من هذا الصنف الأخير، ومع أن شرحبيل بن عمرو كان عربياًّ إلا أنه تنصر، ولكي يبين مدى تعصبه لدينه أمر بقتل حارث بن عمير رضي الله عنه رسول النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن قتل رسولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذنباً يغتفر، كما كان أمره خطيراً بالنسبة لتداعيات هذا العمل لدى رؤساء الدول الآخرين، لذا جهز الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل جعل على رأسه زيد بن حارثة -طليقه ثم ابنه بالتبني ثم حرم الإسلام فيما بعد أمثال هذا التبني- وقال: «زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم.»[118]

عندما بلغ جيش المسلمين مؤته استقبلهم هناك جيش قوامه مائتا ألف رجل، إذن، هناك فرق مذهل بين الجيشين.. ثلاثة آلاف شخص أمام مائتي ألف شخص، وعلى الرغم من كل هذا الفرق الهائل قرر المسلمون القتال وهم يقولون "إما أن ننتصر أو ننال الشهادة."

استشهد القادة الثلاثة الأول واحداً إثر آخر، وانتقلت الراية من يد إلى يد حتى وصلت إلى خالد بن الوليد الذي انكسر في يده في ذلك اليوم تسعة سيوف،[119] وبدأ خالد بن الوليد الذي انتقلت إليه القيادة بعد استشهاد عبد الله بن رواحة يقاتل من جهة ويناور بمهارة يبحث عن طريقة للانسحاب إلى المدينة دون إعطاء المزيد من الخسائر، وكان هـذا الانسـحاب نجاحاً كبيراً من ناحية التكتيك الحربي.. صحيح أن التراجع إلى الوراء لـم يكن مـن شـيمة الصحابة، وكان الصحابة متألمين من هذا ويحز ذلك في نفوسهم، إلا أن المقاييس القرآنية تذكر بأن هـذا كان ضـرورياً.

وينقل البخاري هذه الواقعة فيورد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله فتح الله عليهم.»[120]

وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثلوا لي في الجنة في خيمة من درة، كل واحد منهم على سرير، فرأيت زيداً وابن رواحة، أعناقهما صدوداً، إنهما حين غشيهما الموت كأنهما أعرضا أو كأنهما صدا بوجوههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل.»[121] إذن، فحتى الصحابة قد يكون عند بعضهم كراهية الموت، ولكن هذه الكراهية لم تصل عند أي منهم إلى حد محظور، ولا شك أن ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يعود إلى عالم البرزخ وعالم المثال.

أخافت هذه المعركة بني الأصفر مع أن عدد المسلمين كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل، واستطاع خالد أن ينسحب بجيش المسلمين دون إعطاء المزيد من الخسائر، وحسب رواية ابن هشام فإن عدد الشهداء في هذه المعركة بلغ اثني عشر شهيداً.[122] وآكدت معركة مؤتة للناس في تلك النواحي أن المسلمين موجودون، وبدأ الروم يتحدثون عن هذا الدين الجديد.. عن الإسلام، وسواء أآمنوا أم لم يؤمنوا فقد بدأ الناس يتحدثون عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

بعد هذا التهيؤ العام جاء وقت تحقيق الرؤيا: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾ (الفتح: 27-28).

3. نحو فتح مكة

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى الرؤيا الصادقة، ويروى عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح."[123]

هكذا كانت الرؤيا التي كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يراها في منامه، وقد رأى في منامه أنه يدخل المسجد الحرام مثلما صورت الآية الكريمة ذلك وصدقته. ومع أن الرؤيا التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يراها في منامه كانت ممتزجة بالوحي وقريبة منه إلا أن كلمة "الرؤيا" قد تأتي بمعنى "الرؤية"، أي فكما كان الله تعالى يريه أحياناً الجنة وجهنم واللوح المحفوظ، ويريه بعض الحوادث المستقبلية حتى يوم القيامة.. على غرار هذه فقد أراه دخوله إلى المسجد الحرام آمناً مطمئناً وأداءه مراسيم الحج والعمرة، قد تكون هذه رؤيا في المنام وقد تكون رؤية عيانية، وسواء أكانت هذه أم تلك فالنتيجة لا تتغير، فالمهم هو أن الحوادث جرت مثلما رآها بالضبط، وكان المنظر الذي رآه يشير إلى فتح مكة، وكانت الحوادث تدفع المسلمين نحو الفتح.

كنا قد ذكرنا ما تمَّ من صلح في الحُديبية بين قريش وحلفائها من القبائل وبين المسلمين وحلفائهم من القبائل، ولكن عندما قامت قبيلة بني بكر الحليفة لقريش بالهجوم على قبيلة بني خُزاعة والفتك بهم فقد تم الإخلال بصلح الحُديبية، ولم تعد بنود هذا الصلح سارية، وقد أدرك أبو سفيان وخامة عاقبة هذا الهجوم، فسارع بالسفر إلى المدينة محاولاً التأكيد على أن الصلح لا يزال سارياً، ولكن لم يوفق في مسعاه هذا.[124]

لقد سبق السيف العذل، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للمعركة، وكعادته دائماً كان يكتم نيته وهدفه، وقد كتم نيته هذه حتى عن أقرب وزرائه ومستشاريه إلى درجة أن أبا بكر رضي الله عنه عندما ذهب مرة ليزور ابنته عائشة رضي الله عنها رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتهيأ للسفر، فسأل ابنته عن وجهته فقالت: لا والله ما أدري.[125]

أجل، كان التهيؤ للفتح سرّياً إلى هذا الحد حتى عن أبي بكر رضي الله عنه، أي حتى عن أقرب الناس إليه والذي اختاره لكي يكون رفيقه في الهجرة. ومع ذلك كتم عنه هدفه من التهيؤ للسفر، وهذا بُعد آخر من أبعاد فطنته العسكرية، وقد أخذ السلطان محمد الفاتح هذا الدرس من الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا نراه يقول في أحد الأيام: "لو أن لحيتي عرفت سري لحلقتها." هاكم فاتحاً كبيراً من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مدرسته في التكتم.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقوم بعمل عسكري يوري بغيره ويتكتم على هدفه الحقيقي ويحاول أن يقدم بعض القرائن التي تشير إلى هدف آخر غير هدفه الحقيقي، وأنا أعتقد أن القواد الحاليين يفعلون الشيء نفسه، فإن كانوا ينوون الهجوم على موضع ماء فإنهم يقومون بعمليات تمويه ويفتعلون ضجة كبيرة في موضع آخر، إذ يخفون نياتهم الحقيقة على الدوام فلا يدري أحد أين سيقومون بتوجيه ضرباتهم، أفي موضع أ؟ أم في موضع ب؟ أم في موضع ج؟ وهذه تكتيكات تطورت منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، ولكن المكتشف الحقيقي لهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم ير مدرسة ولم يقرأ كتاباً، ولكنه تعلم ما تعلم من ربه فأصبح -وهو الأمي- أعلم العلماء إلى درجة أنك لا تملك إلا وأن تشهد بأن محمداً رسول الله.

أجل، كان يخفي هدفه عن الأعداء وفي الوقت نفسه يجمع الأخبار عن طريق شبكة الاستخبارات التي أسسها بحيث لم يكن يحدث شيء إلا ويصله خبره. وسواء أكان يتصرف هكذا بأمر من الوحي أم بسبب فطنته الكبيرة فالنتيجة لا تتغير وهي أنه كان يعرف ما يحدث في البادية كما يعرف راحة يده.

إليكم مثالاً: قام أحد الصحابة الذين شهدوا بدراً بإرسال رسالة إلى مكة -باجتهاد خاطئ منه- بعد أن علم أنهم متوجهون نحوها- مع امرأة يخبرهم فيها بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا من قبل الوحي فأرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العَوّام رضي الله عنهم للقبض على المرأة وأخذ الرسالة منها، وهذا ما تم وبسرعة.[126]

واستمر التكتم في هذا الأمر ولم يشعر أحد بقدوم هذا الجيش حتى أصبح على مشارف مكة. وعندما استدعى الرسول صلى الله عليه وسلم إليه أبا سفيان عن طريق عمه العباس رضي الله عنه، لم يكن قد بقي أمام أهل مكة أي خيار أو سبيل آخر، فلو حاولوا الهرب بأسرع فرس أو ناقة لما نجوا.. لقد أسقط في أيديهم.

ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف بحذر، وحذره هذا كان من أجل الفريقين إذ لم يكن يريد أن يتأذى أحد لا من جيشه ولا من أهل مكة، وبسبب حذره هذا استطاع فتح مكة، تلك المدينة العظيمة، ولم يسقط سوى ثلاثة شهداء من جيش المسلمين، بينما كان لا يزال هناك الكثير من أهل مكة من الذين ركبوا عقولهم وقرروا القتال وليكن مايكون.

أتى الرسول صلى الله عليه وسلم مع جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، أجل، مع عشرة آلاف مقاتل مع أنه أتى قبل سنتين مع 1600 نفر فقط من المسلمين، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم إظهار القوة الحقيقية لجيشه هذا فأمر بأن يوقد كل مقاتل ناراً، وذلك في مكان مشرف على مكة ليراها أهل مكة. ولما كان أهل مكة يتصورون أن كل خيمة توقد ناراً. لذا، فعندما رأوا عشرة آلاف نار موقدة قدروا أن الجيش الذي حاصرهم لا بد وإنه يزيد عن ثلاثين ألف مقاتل، وهذا أدى إلى شل حركتهم شللاً كلياً، وأدركوا أن لا سبيل أمامهم سوى الاستسلام، وهذا هو ما أوصى به أبو سفيان عندما رجع إلى مكة، لأنه عندما رأى هذه النيران التي ملأت البطحاء فقد كل أثر من آثار المقاومة.. كانت هذه الليلة هي اللية الأخيرة للجاهلية إذ لم يبق بين المسلمين وبين ساعة الفتح سوى ليلة واحدة.[127]

كانت استراتيجية الرسول صلى الله عليه وسلم -ذات البدائل المختلفة- مستمرة، وقسم الجيش الداخل إلي مكة إلى ستة أقسام حيث دخلوا إلى مكة من ستة أذرع، ولم يجد أي جيش مقاومة سوى الجيش الذي كان على رأسه خالد بن الوليد رضي الله عنه إذ اضطر إلى تشتيت القوة التي جمعها عكرمة بن أبي جهل، أما الجيوش الأخرى فقد دخلت مكة دون قتال.[128]

كان أبو سفيان هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يخلق مشاكل في مكة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يلين قلبه بجملة واحدة فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.» أجل، كان إعطاء هذا القدر والمكانة إلى أبي سفيان كافياً لربط يديه ومنعه عن القيام بأي عمل طائش، بل أصبح أبو سفيان من أنشط من حث على الاستسلام، ولا شك أنه ما كان باستطاعة جميع أهل مكة اللجوء إلى بيت أبي سفيان، وكان بيت الله "الكعبة" أولى من بيت أبي سفيان بالرعاية، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن دخل الكعبة فهو آمن»، ثم كان هناك قرار مفاجئ، وهو منع الخروج من البيت لأول مرة في التاريخ، وكان هذا ضرورياً من ناحية تحقيق الأمن ومن ناحية تسهيل حركة الجيش، لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.»[129] وهكذا تم القضاء على أي احتمال للمقاومة من قبل أهل مكة.

ولو أننا صرفنا أنظارنا عن الغزوات الأخرى للرسول صلى الله عليه وسلم وركزناها على فتح مكة فقط والاستراتيجية السياسية والعسكرية التي طبقها، لكان هذا كافياً لمعرفة درجة عبقريته العسكرية. أجل، إن فتح مكة وحده يكفي لأن يدفع كل منصف إلى أن يقول: "محمد رسول الله."

لقد كان واثقاً من كل خطوة خطاها في كل مرحلة من مراحل تحقيق خطته حتى لكأنه فَتح مكة مرات عديدة، فقد استطاع تطبيق خطته حتى أدق تفاصيلها تطبيقاً دقيقاً، كما عمل كل ما كان يجب عليه عمله.. فالعفو العام الذي أعلنه بُعيد الفتح، والشهامة وسعة الصدر التي أبداها فتحت قلوب أهل مكة فأقبلوا على إعلان إسلامهم، فما أعذب وما أرق هذه المكرمة التي ساقت أهل مكة سوقاً إلى الإسلام! والآن أتى دور قلب هذه القوة الكامنة إلى حركة وإلى عمل.

يا سبحان الله!.. ما أعظم هذا الانقلاب! هؤلاء الناس الذين كانوا بالأمس أعدى أعدائه، أصبحوا اليوم مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل محاربة أعدائه.. فمن ألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة انقلب من فحم إلى ماس.. ولكن ما الداعي إلى أي تشبيهات أخرى، لقد شبه هو صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنجوم.[130] لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد أن يرفع الأرواح المتلطخة لهؤلاء القوم الذين كانوا يتدحرجون في الأوحال إلى السماء ليكونوا نجوماً تشع فيها وليصبحوا قدوة حتى يوم القيامة.

4. هفوة حُنين

حتى فتح مكة كانت هناك قبائل تتعقب الحوادث لكي تنضم إلى الجهة الغالبة، فلما تم فتح مكة بدأت هذه القبائل بالدخول إلى الإسلام قبيلة قبيلة، ولكن جريان الأمور على هذا النحو لم يعجب قبيلة ثقيف وقبيلة هوازن، ولكي لا تسمحا بالمزيد من هذه التطورات السلبية بالنسبة إليهما فقد أسرعتا إلى تشكيل جيش اشترك فيه كثير من النهاب والسلاب أيضا حتى بلغ مجموع أفراده 20-30 ألفاً.[131]

أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلمي رضي الله عنه ليتسقط ويجمع له الأخبار من وسط هذه القبائل، وقام هذا الصحابي بعمله وبلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما جمعه من أخبار ومعلومات وقال: إن قبيلتي ثقيف وهوازن قد جمعتا جيشاً كبيراً في حُنين.

كانت كلتا القبيلتين معروفتين بالشجاعة وبالمهارة في رمي السهام، لذا كان يجب مقابلتهما بجيش شاب يشكل فيه المسلمون الجدد غالبيته، وهكذا كان، فقد أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره بالمسير نحو حُنين دون أي تأخر، لأن الأوضاع كان من الممكن أن تنقلب ضد المسلمين، ذلك لأن جيش العدو إن تيسر له الوقت للتوجه نحو مكة لكان ذلك فرصة أمام بعض من كانوا يتحينون الفرص في مكة لعمل شيء ما ضد المسلمين، وفي الوقت نفسه لو قام المسلمون الجدد في مكة الذين أحسوا أن كرامتهم قد أهينت بالاشتراك في الحرب ضد الأعداء لكان ذلك باعثاً على تثبيت إيمانهم بالإسلام وإحساسهم بوحدة المصير في المستقبل.

تم الذهاب إلى حُنين باثني عشر ألف من المقاتلين، كان من بينهم ألفان ممن لم يكونوا مسلمين عن صدق، أما الباقون فكان معظمهم من الشباب وتنقصهم التجربة والخبرة في القتال، وكان على رأسهم خالد بن الوليد رضي الله عنه. كان العدو قد أخذ موضعه على شكل حدوة الحصان، وبدأت طلائع الجيش الإسلامي بشن الهجوم على القلب من جيش العدو ولكن دون أن ينتبهوا للأمر أو عن قصد.

ثم اضطرت هذه الطلائع إلى التراجع على أثر إمطارها بالنبال والسهام، لأن أكثر الجنود لم تكن لديهم دروع، وكانت السهام شديدة عليهم وتصيب أهدافها، فإن كان الهجوم على وسط حدوة الحصان تم عن علم فإن التراجع والتقهقر كان خدعة حربية، ذلك لأن رماة السهام ما إن رأوا تراجع المسلمين وهربهم حتى انطلقوا وراءهم وهم يطلقون صيحات الفرح وتركوا مواضعهم ولم يشعروا أنهم دخلوا داخل كماشة مما اضطرهم إلى التراجع، ولم تمض سوى ساعات حتى قتل منهم من قتل وفَرَّ الباقون إلى الطائف واحتموا بقلاعها.[132]

ظهرت بوادر هزيمة ظاهرية في بداية معركة حُنين -مثلما حدث ذلك في وسط معركة أُحد- ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاع بشجاعته الفطرية التي كانت تلازمه حتى في أحرج المواقف وأصعبها، وبفطنته الكبيرة أن يغير وجهة الحرب ويحولها بفضل الله تعالى من هزيمة مطلقة إلى نصر باهر.

عندما أحاط الذهول والذعر بجيش المسلمين وتقهقروا اندفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمام.. كان عمه العباس رضي الله عنه -وفي روايةٍ أبو سفيان بن الحارث- قد أمسك بلجام بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم ليمنعه عن الاندفاع نحو العدو، بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصيح بصوته المهيب:

«أنا النبي لا كذب    أنا ابن عبد المطلب»

ثم قال لعمه العباس: «أي عباس! ناد أصحاب السَّمُرَة»، فأجابوه: "لبيك.. لبيك!" وجعلوا يسرعون إليه وسيوفهم مشهرة في أيديهم، وهكذا انتهت فترة الذهول والتراجع القصيرة وثابوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهت المعركة بالنصر المبين.[133]

لا أملك نفسي هنا من الإشارة إلى نقطة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترك في ثمانية عشر غزوة وانتصر في جميعها، ولكني أعتقد أن معركتي أُحد وحُنين أفضل معاركه من ناحية إظهار عبقريته العسكرية، ذلك لأن الأمور جرت في المعارك الأخرى مثلما خطط لها تماماً ووصل إلى النصر فيها بسهولة، أما في هاتين المعركتين فقد ظهرت أمور وطرأت مشاكل غير محسوبة حرفت خططه وغيرتها وأعطت فرصاً كبيرة للعدو، ولكنه استطاع مع هذا، الوصول إلى النصر ولم يكن له أي دخل في تلك المستجدات، لذا كان قيامه بإنقاذ جيشه من الهزيمة والوصول إلى النصر في هاتين المعركتين أفضل وأوضح برهان على العبقرية العسكرية لذلك القائد العظيم.

5. تبوك

تعد معركة تبوك من المعارك السريعة التي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد انتشرت شائعة مفادها أن الإمبراطورية البيزنطية هيأت جيشاً كبيراً وإن هذا الجيش بدأ بالتوجه نحو المدينة، وبينما أقلقت هذه الشائعات المسلمين فإنها أصبحت مصدر أمل وسرور للقبائل المعادية للمسلمين، الجميع كانوا يتوقعون من الغسانيين شراً بالمسلمين.

ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعين بالكتمان في جميع غزواته، إلا أنه أعلن هذه المرة عن هذه الغزوة وأرسل رجالاً إلى القبائل القريبة يطلب منها مساعدته بالرجال وبالسلاح. كانت المدينة وما حواليها تعيش آنذاك ظروفاً صعبة، فالجو كان حاراً جداً والجفاف سائداً، كما كان وقت قطاف الثمار، ولكن في هذا السفر وفي هذه الغزوة كم من فقير ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يوفر له راحلة ليشترك في هذه الغزوة، وعندما لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك رجع وهو يبكي.. والقرآن الكريم ذكر هذا المشهد المؤثر وخلّده في قوله: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة: 92).

في هذه الأثناء لم يكن المنافقون واقفين مكتوفي الأيدي، بل بدأوا بنشاط محموم لتثبيط عزيمة المسلمين وعرقلة سفرهم هذا، واستعانوا بكل حيلة في هذا المجال. أخيراً توجه الرسول صلى الله عليه وسلم بجيش قوامه ثلانين ألف مقاتل نحو تبوك، وبقي في تبوك عشرين يوماً، ولكن البيزنطيين لم يجدوا في أنفسهم الشجاعة لمواجهة هذا الجيش، لذا لم تقع حرب في تبوك، ولكن قدوم المسلمين حتى موضع تبوك أحدث تأثيراً كبيراً على كل من سمع بهذا النبأ، وكان تهديداً وتحدياً كبيراً للعدو أثر على معنوياته تأثير أي هزيمة كبيرة في ساحة القتال، وقد قبلت قبائل مسيحية عديدة أداء الجزية للرسول صلى الله عليه وسلم وأعلنت انقيادها له، كما أعلنت بعضها إسلامها.[134] لذا، يمكن عد حملة تبوك من ضمن الانتصارات التي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم.[135]

لقد حاولنا بتقديم بعض الحوادث إظهار الجانب العسكري للرسول صلى الله عليه وسلم، والآن سنقوم بذكر الخصائص العامة التي يجب توفرها في أي قائد عسكري، لكي يتسنى لنا معرفة أفضل بالعبقرية العسكرية له صلى الله عليه وسلم وبفطنته الكبيرة في هذا المجال.

الهوامش

[1] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/364؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/328

[2] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/287؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/335

[3] هذه المدن في بلغاريا واليونان.

[4] البخاري، المغازي، 17؛ مسلم، الإمارة، 145

[5] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/264؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/318

[6] في الحديث: «إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صُلبه وجعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب.» («مجمع الزوائد» للهيثمي 9/172؛ «فيض القدير» للمناوي 2/223؛ «تاريخ بغداد» للبغدادي 1/317)

[7] «المسند» للإمام أحمد 1/159

[8] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/127؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/216

[9] البخاري، المغازي، 30؛ مسلم، الجهاد، 65؛ الترمذي، السير، 29

[10] البخاري، مناقب الأنصار، 12؛ مسلم، فضائل الصحابة، 123؛ الترمذي، مناقب، 50

[11] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/264؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/318

[12] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/120

[13] أُزْرَنا: أي نساءنا

[14] مسلم، الجهاد، 86؛ «المسند» للإمام أحمد 2/538

[15] «المسند» للإمام أحمد 1/411، 418، 422، 424

[16] نظامي كنجوي (1140-1203): من كبار شعراء الفرس، من آثاره المشهورة مخزن الأسرار وخسرو وشيرين وليلى ومجنون.

[17] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/272؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/326-327

[18] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/277؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/333

[19] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/270؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/324

[20] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/287-288؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/350-353

[21] البخاري، الجهاد، 37؛  الرقاق، 7 ؛ مسلم، الزكاة، 121-123؛ ابن ماجه، فتن، 18

[22] «المسند» للإمام أحمد 1/463

[23] «المسند» للإمام أحمد 1/86

[24] المقصودة هي مدينة “فينا”.

[25] لعل المؤلف يشير إلى حديث: «يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم كما تَداعَى الأَكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومِن قِلّة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غُثاء كغثاء السيل، ولينـزعَنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذِفَنّ الله في قلوبكم الوهَن.» فقال قائل: يا رسول الله وما الوَهَن؟ قال:«حب الدنيا وكراهية الموت.» (أبو داود، الملاحم، 5؛ «المسند» للإمام أحمد 5/278). (المترجم)

[26] العكّارون: أي الكرّارون.

[27] أبو داود، الجهاد، 96؛ الترمذي، الجهاد، 37؛ «المسند» للإمام أحمد 2/70، 86

[28] الدعاء الفعلي: هو الأخذ بالأسباب واستخدام القوانين التي وضعها الله تعالى في الكون.

[29] البخاري، الزكاة، 54؛  مسلم، فضائل، 11

[30] انظر: البخاري، المغازي، 15-16؛ مسلم، الجهاد، 119؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/58

[31] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/50-53؛ «البداية والنهاية» لابن كثير، 4/4

[32] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/47-48؛ «البداية والنهاية» لابن كثير، 3/415-416

[33] الآطام: الحصون المبنية من الحجارة.

[34] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/67؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/13

[35] الثَّلْم: الخلل أو الكسر.

[36] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/66، 67

[37] البخاري، الجهاد، 12؛ مسلم، الإمارة، 148؛ «المسند» للإمام أحمد 3/194

[38] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/67-68؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/14-15

[39] البخاري، الاعتصام، 28؛ الدارمي، الؤيا، 13؛ «المسند» للإمام أحمد 3/351

[40] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/68؛ «البداية والنهاية» لابن كثير، 4/16

[41] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/70؛ «البداية والنهاية» لابن كثير، 4/18

[42] انضح: أي أرم رمياً حسناً.

[43] البخاري، الجهاد، 164؛ أبو داود، الجهاد، 106؛ «المسند» للإمام أحمد 4/293؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/70؛ «البداية والنهاية» لابن كثير، 4/17

[44] مسلم، فضائل الصحابة، 128؛ «المسند» للإمام أحمد 3/123؛ «البداية والنهاية» لابن كثير، 4/17-18

[45] أوطأناهم: علوناهم وأهلكناهم وقتلناهم.

[46] البخاري، الجهاد، 164؛ أبو داود، الجهاد، 106؛ «المسند» للإمام أحمد 4/293؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/70؛ «البداية والنهاية» لابن كثير، 4/17

[47] «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/109

[48] قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتّى يُثْخِنَ فِي اْلأَرْضِ تُريدُونَ عَرضَ الدُّنيَا وَاللهُ يُرِيدُ اْلآخِرَة وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِي مَا أَخَذْتم عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال: 67-68).

[49] مسلم، الجهاد، 58؛  «المسند» للإمام أحمد 1/31-32

[50] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/89-87؛ «الإصابة» لابن حجر 4/479

[51] «الإصابة» لابن حجر 4/479

[52] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/88؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/39

[53] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/35-36؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/100-101

[54] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/88؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/39

[55] البخاري، المغازي، 24؛ مسلم، الجهاد، 101

[56] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/88-89؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/39

[57] حربوا: غضبوا.

[58] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/110؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/58

[59] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/57؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/107

[60] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/107؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/56 وما بعدها.

[61] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/56؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/107

[62] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/58-59؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/108

[63] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/71؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/17-18

[64] البخاري، الوضوء، 72، الجهاد، 80

[65] «اللمعات» لبديع الزمان سعيد النورسي (اللمعة السابعة)  ص41

[66] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/88؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/35، 36؛ البخاري، الجهاد، 12

[67] كان "مِيلوش" أميراً صِربياًّ وجرح في المعركة جرحا خفيفا، وقال إنه يريد مقابلة السلطان لكي يعلن إسلامه أمامه، وكان يخفي في ملابسه خنجراً أغمده في صدر السلطان عندما اقترب منه. (المترجم)

[68] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/190 وما بعدها.

[69] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/100 وما بعدها؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/43

[70] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/213؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/95-96؛ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، 2/192

[71] المريسيع: ماء لبني خزاعة بينه وبين الفرع مسيرة يوم.

[72] «كتاب المغازي» للواقدي، 1/410

[73] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/302؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/178-182

[74] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/309-321؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/182-185

[75] مسلم، الصلاة، 9

[76] البخاري، الصلاة، 12، الأذان، 6 ؛ مسلم، الجهاد، 120؛ الموطأ، الجهاد، 48

[77] «البداية والنهاية» لابن كثير، 4/180؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/302-305

[78] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/180

[79] البخاري، مناقب الأنصار، 9، المغازي، 29؛ مسلم، الجهاد، 123-125، 130؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/106-114؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/226-230

[80] سَلْع: الجبل المعروف بسوق المدينة.

[81] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/231

[82] «كتاب المغازي» للواققدي 2/460

[83] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/235؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/120-121؛ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 2/181

[84] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/120؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/235؛ «كتاب المغازي» للواقدي 2/470-471

[85] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/235-236؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/121-122؛ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 2/181-182

[86] «كتاب المغازي» للواقدي 2/470-472؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/120

[87] «كتاب المغازي» للواقدي 2/496؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/123، 133

[88] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/239؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/124؛ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 2/182

[89] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/243؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/ 129، 132؛ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 2/184

[90] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/230؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/116؛ «تاريخ الأمم والملوك» للطبري 3/167-168؛ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 2/179

[91] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/240-242؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/128-130؛ «كتاب المغازي» للواقدي، 2/480-487

[92] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/132؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/243-242

[93] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/264؛ «كتاب المغازي» للواقدي، 2/496

[94] البخاري، المغازي، 29؛ «المسند» للإمام أحمد 4/262

[95] البخاري، المغازي، 30؛ مسلم، جهاد، 65-68

[96] «المسند» للإمام أحمد 1/275

[97] «البداية والنهاية» لابن كثير 3/322؛ «دلائل النبوة» للبيهقي 3/107

[98] البخاري، المغازي، 30؛ الترمذي، السير، 29

[99] البخاري، الجهاد، 18، المغازي، 30؛ مسلم، الجهاد، 65

[100] البخاري، المغازي، 30؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/245؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/134

[101] البخاري، الإستئذان، 26، المغازي، 30؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/249-251

[102] تذكر المصادر التاريخية أرقاما مختلفة لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهنا أعطينا أرجحها.

[103] هناك روايات أخرى تعطي أرقاما مختلفة لعدد الصحابة.

[104] إذخر وجليل: نبتتان. مجنة: موضع كان سوقا في الجاهلية. شامة وطفيل: جبلان0

[105] البخاري، مناقب الأنصار، 46؛ الموطأ، المدينة، 14؛ «المسند» للإمام أحمد، 6/65، 83، 222

[106] قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلاتهم عِندَ الْبَيتِ إلاَّ مُكَاءً وَتَصدِيةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُم تَكفُرونَ﴾ (الأنفال: 35).

[107] مسلم، تفسير، 25؛ النسائي، المناسك، 161

[108] قال تعالى: ﴿وَأذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَومَ الْحَجِّ اْلأكبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبتُمْ فَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَإنْ تَوَلَّيتُمْ فَاعلَمُوا أَنَّكُمْ غَيرُ مُعجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 3).

[109] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/192-193؛ «كتاب المغازي» للواقدي 2/571-632؛ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 2/200-206

[110] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/325-327؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/189-191

[111] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/344-342؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/207-206

[112] البخاري، الصلاة، 12، الأذان، 6؛ مسلم، الجهاد، 120

[113] «الإصابة» لابن حجر 2/508-509

[114] البخاري، المغازي، 38؛ مسلم، فضائل الصحابة، 4؛ الترمذي، مناقب، 20

[115] «الإصابة» لابن حجر 4/346-347؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/344-345

[116] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 25، المغازي، 44؛ «المسند» للإمام أحمد 1/4، 8

[117] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/298، 311؛ «تاريخ الأمم والملوك» للطبري 3/237-250

[118] «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/156-157؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 4/15، 21؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/291

[119] البخاري، المغازي، 44

[120] البخاري، المغازي، 44؛ «المسند» للإمام أحمد 3/113

[121] «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/160؛ «المصنف» لعبد الرزاق بن همام الصنعاني 5/266

[122] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/30؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/295

[123] البخاري، بدء الوحي، 3

[124] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/31 وما بعدها.

[125] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/39

[126] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/41

[127] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/41-45

[128] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/49-50

[129] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/331-332؛ «السيرة النبوية»لابن هشام 4/47

[130] «كشف الخفاء» للعجلوني 1/147

[131] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/368-372

[132] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/373 وما بعدها.

[133] البخاري، الجهاد، 52؛ مسلم، الجهاد، 76-77؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/373

[134] البخاري، الجهاد، 52

[135] «البداية والنهاية» لابن كثير 5/13 وما بعدها.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.