الفرار والاعتصام

الفرار هو الهرب من شيء والابتعاد عنه. ولدى أربابه أصبح عنوانًا للسير من الخَلق إلى الحق سبحانه، والالتجاء من الظل إلى الأصل، وترك القطرة والتوجّه إلى البحر، وترك الذرة والتوجّه إلى الشمس، والانسلاخ من الأنانية وإذابة الوجود في أشعة الحق تعالى، بحيث يمكن أن تربط هذه كلها بما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ (الذاريات:50) من "السير القلبي والسير الروحاني" للإنسان. وكلما ابتعد الإنسان في سبيل إيمانه عن جو الجسمانية القاتل تقرّب إلى الله تعالى وكان مؤديًا طورًا معقولاً لذاته موقرًا لها.

ولمعرفة كيف يترقى مثل هذا الفارّ الملتجئ إلى الحق سبحانه، نستمع من العبد الصادق لدى ذلك الباب الإلهي، سيدنا موسى -على نبينا وعليه السلام- قوله: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء:21) الذي يلفت النظر فيه إلى أن الطريق الموصل إلى الذوق والوصال والخلافة والقرب إنما يمرّ من الفرار. وبقوله هذا يؤدي دور الريادة والإرشاد لإرادات تقتفي أثر النبوة.

إن فرار العوام هو الاحتماء من ضيق الوجود وضجيجه وقبح المعصية إلى رحاب الأُنس بالله وجميل غفرانه جل جلاله. فهؤلاء يتْلُون في كل طرفة عين: ﴿رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ (المؤمنون:118) ويرددون في كل حركاتهم وسكناتهم: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ».[1]

أما فرار الخواص، فهو من الصفات إلى الصفات، ومن السر إلى الشهود، ومن الرسوم إلى الأصول، ومن حظوظ نفسانية إلى مشاعر روحانية، حتى يغدو وِردُهم الدائمي: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ».[2]

وأما فرار أخص الخواص فهو من الصفات إلى الذات، ومن الحق سبحانه إلى الحق تعالى، فيقولون دائمًا: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْك»[3] ويعيشون في جو الهيبة والمهابة.

وهذه الأنواع من الفرار تنتهي إلى التجاء، إلى حماية، إلى اعتصام. فكما يتناسب الفرار طرديًا مع العمق الروحي للفارّ، فالنقطة التي يبلغها من حيث النتيجة متفاوتة أيضًا:

فالأوائل: ينصبون أخبيتهم على سفوح المعرفة، ويذكرون الله سبحانه في كل شيء، من الذرات إلى المجرات. فيطلبون مطالب تعجز عنها الموازين ويبدأون بطلب ما لا يمكن وقوعه، وإذا بهم يجدون في وجدانهم مصداق «مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ»،[4] فيرددون في ذهول:

اِعْتِصَامُ الْوَرَى بِمَعْرِفَتِكَ                          عَجَزَ الْوَاصِفُونَ عَنْ وَصْفِكَ

تُـبْ عَلَيْنَا فَإِنَّنَا بَشَـرٌ                           مَـا عَرَفْنَاكَ حَـقَّ مَعْرِفَتِكَ

والثواني: يطلقون في كل آن أشرعتهم في بحرٍ آخر للمعرفة، فيمضون عمرهم بتلونات واردات متنوعة. ولأنهم لم ينجوا من البرازخ يعجزون عن بلوغ أُفق الحيرة التامة. فيرنون بأبصارهم كل آن نحو مراتب الصعود ويطيرون من مرتبة إلى أخرى مرتعدين من تصور السقوط.

والثوالث: هم الناجون من موجات مَدّ "الحال" وجَزره. رؤوسهم غارقة دائمًا في عمق آخر من أعماق الحيرة، وعيونُهم تحدق ذابلة بشراب "عين ماء"[5] فيبلغون من النشوة مبلغا قد لا يفيقون منها حتى بصور إسرافيل. ولا يمكن أن يعبّر أحد عن مدى عمق أفكارهم وسريان تخيلاتهم إلاّ مَن ذاق ما ذاقوا من نشوة.

آن خِيَالاتي كه دَامِ اَوْلِيَاسْت             عَكسِ مَهْ رُويَانِ بُستَانِ خُدَاسْت[6]

يعني: إن الخيالات التي هي شِباك الأولياء، إنما هي مرآة عاكسة تعكس الوجوه النيرة في بستان الله.

المقصود من "بستان خدا": مرتبة الواحدية. والمراد من "مه رويان": أسماء الله وصفاته الجليلة التي تتميز في مرتبة الأحدية. وعلى هذا يمكن أن نفهم المسألة كالآتي:

"إن الشِِباك التي تلتف بأقدام الأولياء ليست إلا تجليات الأسماء والصفات، وما هي إلاّ خيالات لدى فاقدي الأبصار الموصدة أبوابُهم في وجه الحقيقة". وبعبارة "صاري عبد الله أفندي":

"إن مرايا قلوب الأنبياء والأولياء، مع أنها مظاهر ومعاكس الأسماء والصفات الكلية الإلهية، فإن الصفات الربانية تغدو بستانًا لوجوههم النيرة كالقمر، يسحرهم كل آن بسحر جديد".

والخلاصة: إن هؤلاء قد فرّوا من كل ما يجب أن يفروا منه، إلى ركن شديد كما هو مضمون الآية الكريمة ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ (البقرة:256). فلا انفصام لهم عنها ولا انقطاع بإذن الله. ذلك لأن الذي يتوجهون إليه، ويلجأون إليه، هو الموجود الحق، دائمٌ باقٍ من الأزل إلى الأبد، بصير بكل شيء، رقيب على كل شيء، وهو الكبير المتعالي الحق. فهؤلاء وجدوه، واعتصموا بحبله المتين، لذا فهم في منجىً من الهلاك والتنكب عن الصراط والانفراد والتنائي، ذلك لأن ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ (البقرة:257).. فتتبدد الظلمات التي تحيط بهم من كل جانب وتزول، فتبصر العيون الحقيقة بجلاء، وتسمعها الآذان بوضوح، وتغدق عليهم السماء نجوم الابتسامات، وتسربلهم الأقمار والشموس بسرابيل أُخروية، فيغدو كل شيء كتابًا بديعًا يُقرأ، ومنظرًا رائعًا يُشاهد.. من الذرات إلى المجرات. ويأتي الربيع الطلق يختال ضاحكا مسرورًا، ويُسمع الصيفُ مشاعرنا أنغامًا عذبة ندية... فتُمحى الآلام وتزول الأوجاع، وتتفجر من كل جانب أذواق روحانية، ويستشعر الإنسان معًا حظوظ عيشه ويتذوق أذواق وجوده كإنسان.

فالذين يريدون تذوّق هذه النشاوى الروحية اللامتناهية إلى الأبد، يُنظّمون هجرات فائقة جادة في كل حين، مما لا يريده الله إلى ما يريده ومما نهى عنه إلى ما أمر به ومما لا يحبه ولا يرضاه إلى ما يحبه ويرضاه. فيعيشون في فرار إليه تعالى، لا يقرّ لهم قرار إلاّ بإسناد كل شيء إليه سبحانه، وهذا هو الاعتصام الحقيقي.

اللّهم إني أسألك من خير ما سألك به نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

الهوامش

[1] البخاري، الدعوات 2؛ الترمذي، الدعوات 15.

[2] مسلم، الصلاة 222؛ الترمذي، الدعوات 76؛ أبوداود، الصلاة 340 (واللفظ هنا منه).

[3] مسلم، الصلاة 222؛ الترمذي، الدعوات 76.

[4] انظر: فيض القدير للمناوي، 2/410؛ أقاويل الثقاة لمرعي بن يوسف، 45.

[5]هذه العبارة تشير إلى إدراك السالك بوحدانية الله تعالى إدراكاً ذوقياً وأنه سبحانه حاضر وناظر في كل مكان، استنباطاً من الآية الكريمة: ﴿وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:115) وكذلك ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الحديد: 4). (المترجم)

[6] مثنوي معنوي لمولانا جلال الدين (فارسي)، 1/16، باب:72.

مجلة سيزنتي التركية، أكتوبر 1992؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.