3- التبليغ أثمن هدية

إذا أردنا أن نعقد نشبه وظيفة التبليغ بتبادل الهدايا بين الناس يمكننا أن نسرد الآتي:

إنكم تتهادون فيما بينكم في المناسبات والأعراس، ولاشك أنكم قبل تقديم الهدية تفكرون ملياً في اختياركم لها ومدى ملاءمتها للشخص المُهدى إليه. وهذا أمر معتـاد ومفيد في الوقت نفسه؛ لأنكم بها تقضون حاجة وتضمنون محبة. وكذلك الأمر لدى زياراتكم لمن يشاركونكم في الحياة الاجتماعية ورفقائكم في الدرب نفسه، فعليكم أن تكونوا دقيقين في اختيار ما ستقدمونه إليهم بمثل اهتمامكم ودقتكم في تقديم الهدايا.

وعلينـا ألاّ ننسى أن أحوج ما يحتاجه إنسان اليـوم: قليل من الكلام الطيب والنصح لـه. وكذا فإن أثمن هديـة في الوقت الحاضر هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإن أول ما علينا لأجل تحقيق هذه الوظيفة على الوجه الأكمل معرفة الشـخص المخاطَب أو الأشخاص المخاطبين وتشخيص ما يحتاجونه تشخيصاً جيداً؛ إذ بخلافه سيكون الأمر كأنك تريد إلباس ثوب لشخص يضجر منه ولا يُعجبه ولا يليق به وإن كان من أفخر الأقمشة وأجودها. فعلى الرغم من أن هذا الأمر معروف إلاّ أنه يفعل فعل المنكر. فلا يعني شيئا لمن ابتلي بأفكار شتى ومذاهب ضالة أن تعرج به في أرجاء السماوات العلى قبل أن تُصفّي مفاهيمه. إذ كيف تتلألأ نجوم السماء في مرآة وجدان من انكسف قلبُه وأظلمت روحُه؟ ومن هنا فإن تشخيص حاجة أي إنسان كان من أهم الأمور؛ كي يؤثر الكلام فيه وتجدي المحاورة معه، وربما تهزّه هزاً ولعلها تكون سبباً لاسترشاده. ولربما حسراتكم المليئة بالأنّات المؤلمة هذه تكون سبباً في ملء خوائه المعنوي ودفع حاجته المعنوية. ولا هدية أغلى ولا أثمن من تلك الأنّات والاستغاثات المليئة بالأحزان مع القول اللين الذي يعيد إليه الصواب. بل ربما تكون تلك الاستغاثة سبباً في إيقاف جميع تصرفاته الخاطئة في المستقبل وتسوقه مع القول اللين إلى سبيل الاستقامة والصواب. فالهدية التي تكون سببا لتوجّه المرء من السيئات إلى الحسنات هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالذات. وأحسب أنها أجلّ الهدايا.

لقد دامت أيام محاصرة خيبر طويلا دون أن تسفر عن شيء؛ حيث كان يهود خيبر يقاومون الحصار بكل طاقتهم. وذات يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية -أو قال: ليأخذن- الراية غداً رجل يحبه اللهُ ورسوله، -أو قال: يحب اللهَ ورسولَه- يفتح الله عليه".[1] فهذه أعظم بشارة للصحابة الكرام، إذ كان كل منهم يتمنى هذه المنـزلة. علماً أن كلاً منهم كان يفضّل أخاه المؤمن على نفسه في الشؤون كلها، حتى إن بعضهم عندما قُدّم إليه قدح من ماء يشربه نظر إلى مَن حوله فقال للذي جاء به: ويحك كيف أشرب أنا وهؤلاء يلتفون حولي؟ أعطه مَن شئتَ منهم. فإن كان يصح في وقتٍ إيثارٌ ففي مثل هذا الوقت، ومات عطشا.[2] وهكذا كان يؤثر أخاه المؤمن على نفسه حتى يقدر أن يملّكه ما يمتلك حباً وكرامة. إلا أن الكلام الذي نطق به الرسول الكريم في هذا اليوم هو بشارة ضمان محبة الله ورسوله، لا يفوّته أحد ولا يُؤْثِر فيه على نفسه أحد أحداً.

والخلاصة أن كل واحد كان يريد أن يحظى بهذه المرتبة. حتى إن سيدنا عمر ذا الفطرة النادرة قال: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها".[3] ذلك لأن فيها ضمان محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. لذا لم يغمض للصحب الكرام جفن حتى الصباح انتظاراً لهذه البشارة العظمى، فالجميع يترقبون لمن تُعطى الراية؟ وفي الصباح الباكر انتظروا بلهفة البشارة فأخذوا موضعهم في الصف الأول من صلاة الفجر حيث ستُسلّم الراية عقبها. وفعلا بعد أن أنهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الصلاة تركزت العيون إليه في انتظار: ماذا سيخرج من بين الشفتين المباركتين؟. نعم، وقد نطق ذلك الفم الذي يفوح بطيب الجنة باسم مَن هو أسعد إنسان في الدنيا وأكثرهم حظاً. فقد آن أوان النطق بهذه البشارة العظمى حيث قد بلغ الاهتياج ذروته. فقال صلى الله عليه وسلم بصوته الرقيق الشفيق: "أين علي؟" وعندها عُرف الأمر أن الإنسان المحظوظ هو سيدنا علي رضي الله عنه. ولكن مازال هناك أمل يستشرف له الصحابة الكرام وهو غياب سيدنا علي بسبب عينه الرمداء، فأجابوا الرسول صلى الله عليه وسلم مساقين بهذا الأمل: إنه هاهنا مريض يرقد. فدعاه الرسول ومسح عينه بإصبعه المباركة بعد أن وضعها في فمه المبارك فطابت تلك العين حتى لم يذق سيدنا علي طوال حياته ألماً في عينه.

وهكذا وجدت الراية صاحبها المحظوظ، فتسلمها سيدنا علي وتوجّه نحو خيبر. ولكن توقف فجأة مستفسراً من الرسول صلى الله عليه وسلم على أي شيء نحاربهم؟ وعلى ماذا ندعوهم؟ فأجابه سيد الكونين صلى الله عليه وسلم: "انفذ على رسلك حتى تنـزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدىَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم".[4]

ومنذ ذلك الوقت لم يدخل جيش الإسلام إلى موضع وفي أي وقت كان إلا وكأن كل جندي في أذنه صدى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا فيتلقاه واجباً عليه تنفيذه.

ففي العهود السابقة نُفّذ نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق هذا الحديث الشريف وأمثاله من الأحاديث الشريفة من جهة، وما عمله الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته من جهة أخرى. بمعنى أن طلائع الإرشاد يدخلون البلاد التي ستفتح وينشرون الحق ويهيؤن الجو لصالح المسلمين، فإذا استجاب أهل تلك البلاد إلى الأمر فسيدخلون الإسلام وتعدّ بلادهم ديار الإسلام. ولكن إذا قاوموا وجابهوا المرشدين بمعارضة وأعاقوا نشر الإسلام، يُحسم الأمر بالفتح وفق ما ذكرنا سابقا من القواعد. أي يبلّغون الإسلام أولاً؛ لأنهم يعلمون يقيناً أن إرشاد رجل واحد خير من إنفاق ملء الأرض من حُمر النَّعم في سبيل الله.

ومن هنا نرى أن أجمل هدية يقدمها المسلم باسم الإنسانية، هو تحقيقه لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، إن أداء هذه الوظيفة بإحسان ولطف لهو أعظم هدية وأثمنها.

الهوامش

[1] البخاري، الجهاد 121، 143، فضائل أصحاب النبي 9؛ مسلم، فضائل الصحابة 32، 35؛ الترمذي، المناقب 20.

[2] انظر: شعب الإيمان للبيهقي، 3/61.

[3] المسند للإمام أحمد، 2/384؛ الطبقات الكبرى لابن سعد، 2/110.

[4] البخاري، فضائل أصحاب النبي 9؛ مسلم، فضائل الصحابة، 34.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.