الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

أسس الرؤية الحضارية لدى كولن

وإن من أهم ما يؤسس عليه كولن رؤيته الحضارية: بعث روح الدين الحق، وتعويم القطاعات المدنية بقيم الروح، تخليصًا لما علق بالحياة المعاصرة من خبائث وأدران.

وإذا كانت الأسطورة هي من أبرز مقومات الوجدان الثقافي الأوروبي (الغربي) ومحددًا بارزًا في هويته الأدبية، يسترفدها من تراثه الإغريقي الروماني، ولا يزال يوظّفها في معارفه، ويرسي عليها أسس فكره، فلا ريب أن الدين هو جوهر الهوية الإسلامية؛ إذ استطاع هذا الدين بألماسية محامده وكلية مقاصده، أن يستوعب ما في متَجَذِّرات وجدان الأقوام والأمم التي انبلج عليها فجر الإسلام، أو التي انتهى إليها نوره بعد ذلك، فجَبَّ منها ما متَّ للشرك بصلة، وسدَّد المقومات الكريمة، وجعلها تندمج في أسس كبرى لهويته الجامعة التي يشترك في حمل خصائصها المسلمون كافة. من هنا أضحى الإسلام بفضل ما انبنى عليه من فرائض وعبادات، أكبر محركات العاطفة والشعور والوجدان في نفسية المسلم، وأقوى البواعث على الفعل والبناء. فـ"العبادات موجّه أساس حاضر في كل الأحوال"[27].

أهمية الدين أنه طاقة دائمة، وحافزية متجددة لا تسقط في الابتذال بتاتًا، عكس ما سواه من الحافزيات كما أسلفنا. فقابلية انبعاث الدين من رماد الردة أمر واقع، ولا مراء فيه، من هنا كان الدين يمثل أكبر مُقَدَّرات التجييش، وأنفس ذخائر التحشيد التي يمكن أن يرصدها الإنسان للرهانات الكبرى، والتحديات المصيرية.

تشبُّ الثوراتُ والوازع يحدو أصحابها العُزّل إلى التيقن من كسب النصر، مع أنهم لا يملكون من شروط المرابطة إلا الإيمان؛ ذلك لأن الإيمان ظل يعتبر في كل عصر، السلاح الذي لا يضاهيه سلاح في خوض المعارك، وحسم المنازلات.

والدين الإسلامي بما هو مكوِّن تعبدي وسلوكي يومي، بات هو مَحْضن القيم، ومستزرعها، والنسيج العضوي الذي تنمو فيه، وتتشكل، وتأخذ صورها وألوانها.

فالثقافة في المجتمعات الإسلامية مرتبطة عضويًّا بالدين، ولا تكاد تغيب نواة الدين الإسلامي حتى في سلوك الفرد الملحد؛ لأن الوازع الديني فطرة في الإنسان عامة، لا يستطيع التجرد منها، ولأن الختم الذي يتركه الإسلام على من يظلهم ويمسّهم، لا يكاد يَمَّحي مهْما سعى الإنسان إلى استئصاله من أعماقه.

وشخصية الفرد والجماعة إنما تقولبها الثقافة، باعتبار أن الثقافة هي الأرضية الأرحب التي تصب فيها منجزات التعليم، والفضاء الأوسع الذي تؤثثه مكاسب التربية، فلذا تتأهل الثقافة المستصلحة وتتأهب لتجنيد الأجيال، شريطة أن يُشحذ مكونُها الروحي، ويُجَلَّى مقومُها القدسي.

ولا ينبغي أن نُفَعِّل الدين ونعتبره مجرد وسيلة ووسيطًا يوصلنا إلى أهداف بعينها، ثم نتخلى عنه؛ إذ العلاقة بالدين تكون عندئذ واهنة، وغير صميمة، ومغرضة، وانتهازية، ومنافقة.

إن مثل هذه العلاقة تصطنعها الأيديولوجيات، وتسوس بها الجموع، وتغافلهم، ثم لا تلبث ساعة الحقيقية أن تحين، فتتهاوى صروح الدجل أمام الأنظار، وتترنح أحلام الافتئات.

تَكتنز الثقافة وتتفتح في مواسم اشتحان القلوب بالإيمان، فالفرد الصادق في إيمانه، والجماعة المخلصة لعقيدتها، والمجتمع الذي تترجح فيه كفة الخيرين (والرجاحة تكون دائمًا نوعية)، تغدو ثقافته مصطبغة بصبغة العقيدة؛ لأن الصدر العامر بالتقوى، يفيض محبة واستقامة، ويزخر دينامية وسباقًا إلى الخيرات؛ ذلك لأن الثقافة هي البلازما التي تستوي فيها خلايا الإيمان، وإن القيم الثقافية تستمد من العقيدة طاقتها، فتضعف بضعفها[28]، وتقوى بقوتها؛ من هنا كانت الدعوات الإصلاحية وهي تركز، على استحياء، قيم الدين في نفوس الأفراد والجماعات، إنما تتوخى خلق مجال ثقافي تتعزز به دافعية الخير التي يستهدفها الدين، ويحرص على تركيزها في المجتمع. "إن الثقافة بألوانها المختلفة -في المجتمع المستصلح- تحوم وتدور في محيط العقيدة، وتنهل من مناهلها، وتتغذى بغذائها، وتنمو بها، ثم تتحول بفضلها إلى حال فوق الزمان والمكان"[29].

بالباعث الثقافي حشدت الماوية (الصينية) الحشود، وساقتهم إلى الجبال الشاهقات والهضاب الفاخمات، فنضّدوها بأظافرهم، ومهّدوها بأناملهم، وبمثل ذلك أقحمت الهتليرية الأمم في الحروب، وخاضت الشيوعية معامع من دم وتضليل، وحسبت أنها تَنْفذ بالإنسان عبْر بوابة الأيديولوجية إلى الفردوس الأرضي، لكن ثقافة الحشر تلك، كانت ثقافة تدويخ وقتية، لا يمكنها أن تتجدد بنفس الاستماتة؛ لأن مرجعيتها هو الاجتهاد البشري الذي لا مجال للثبات عليه؛ لأن الأجيال تتبدل، والفكر يتجدد، والأطوار تتعاقب، ويتجاوز بعضها بعضًا، إلا الدين، فإن جوهره مهيأٌ أبدًا لخلق ذات الشروط التجنيدية التي تستمد عصاميتها من المُثل العليا، من الخالق ذي الجلال.

ومن المؤكد أن الأيديولوجيات جميعًا تتذرع بمنطق أخلاقي صوري إلى مقاصدها، فهي تغلّف أهدافها بغلاف سفسطائي خادع، بحيث توهم من لا يكون بصيرًا بدهائها، وتوقعه في المغالطة.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.