الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

تلافي الثغرات في المنهج والأداء والإنشاءات

من أوكد ما يلفت إليه الأستاذ كولن ويشرطه لنجاح الخطط النهضوية، أن ترتكز على قاعدة من الانسجام، وألا يخالطها التهلهل الذي يجعل بنية الخطة مخترقة بما يسميه كولن (الثغرات)؛ ذلك لأن الرشادة في التقدير تفترض أن يشتمل كل برنامج أو منشأة أو تأسيس على مقومات حيوية تفي بتلبية الحاجة وتغطية النقص في قطاع حياتي ما، فإذا لم يتوفر البرنامج على هذا البُعد التكاملي، جاءت النتائج المتوخاة منه ناقصة، أو زائدة، أو غير ذات جدوى؛ لأنها -ميدانيًّا- تعجز عن أن تستجيب للمطلب الحاجي أو التجهيزي أو الارتفاقي، فلا يكون لها من ثمة لزوم.

وإن مما يثير الذهول أن نرى مؤسسات التكوين في عالمنا العربي تستنيم لنظم تعليمية بلا هدف، فما زالت المراكز الجامعية، والمعاهد التكوينية، والمدارس العليا تخرّج سنويًّا الآلاف المؤلفة، من غير أن تضع السياسات الوطنية الخطط التي تستوعبهم، ليس فقط من أجل امتصاص البطالة، ولكن لجعل التعليم ينهض بدوره الأول والأخير وهو إنشاء القوى التي تتحول عند تخرجها إلى قوى ينتظرها عالم الشغل، في شتى مفاصل الحياة، فتدور الماكينة بهم وبجهودهم، فتتوسع بهم أرضية التصنيع والتجهيز والزراعة، والبحث الكيماوي والذري والخدماتي، وتنشط حركة الإبداع، وتتقلص باستمرار حاجة المجتمع والأمة إلى الاستيراد، بل وتدخل عالم المنافسة، وتقتطع لها في الأسواق الدولية مساحات لصادراتها من المصنوعات والمنتجات.

لا زالت الجامعات العربية والإسلامية، تُكَوِّن الميكانيكيين، ولا تزال بلداننا تستورد العتاد والسيارات، وحتى المفكات والمسامير.. وما ذلك إلا لأن الخطة التمدْرسيّة بالمدارس وُضعت بشكل ساذج، بحيث يضحى دور مؤسساتنا في التكوين هو تهييء دفعات الشباب المكون، وترشيحهم للهجرة الجبرية، وإفادة الآخر بما نتكبد فيه باهظ الأثمان؛ لأن التخطيط القومي والوطني لم يضع في حسابه ابتكار شبكات المؤسسات التي تصنِّع المجتمع، وتحوله من مستورد لكل شيء، إلى مكتفٍ، وإلى مُصدِّر.

هكذا تستمر أوطاننا في هدر الأموال الباهظة بلا كبير طائل؛ لأن التخطيط عشوائي، لا مهندس له يرشِّدُه، ولا عقل يسدده ويضعه على سكة النجاعة الحق.

من جهة أخرى نرى كولن يشدد على وجوب توفير عامل الانسجام وتفادي الثغرات على مستوى التنفيذ والانضباط؛ إذ يرى أن البناء النهضوي يقتضي الجماعية، فالمشروع التنموي، وإن شجّع وعزّز المبادرات الفردية، ودعم أصحابها، بل وبحث عنهم وتبناهم، إلا أنه يحرص على أن يدرج المبادرات الفردية ضمن نسيج الخطة، بحيث لا تبدو عشوائية، أو زائدة عن منظومة الوحدات، أو معارضة لما تتوخاه الخطة.. فبذلك التصفيف الإدماجي الذي تخضع له الجهود الفردية، والمبادرات الأحدية، تضمن برامج النهضة شرط الانتظام، فيغدو النماء شاملاً، ومتكاملاً، وتغدو إمكانات التوسع العضوي، أو المتوازي، أو المتلاحق، أمرًا ممكنًا، بل ولازمًا؛ إمضاء لمشاريع النهضة في الاتجاه الشمولي المتكامل.

"إن الهمم والمبادرات الفردية إن لم تنضبط بالتحرك الجماعي، ولم تنظم تنظيمًا حسنًا، فستؤدي إلى تصادم بين الأفراد -وبين فقرات البناء وفروع التأسيس-.. وبالتالي سيختل النظام"[41].

فمن شأن جدولة العمل، وتقسيم الوظائف، وتوزيع المأموريات، أن يحدث الدينامية التي تهيئ مزيدًا من الفرص، وتفتح مزيدًا من الآفاق في وجه الخدمة والتثمير.

إن مبدأ الالتزام بشرط الانتظام والانسجام في برامج التنمية ومكوناتها، بقدر ما يشدد على أهمية التنسيق في ما بين الفروع والوحدات، لأجل السير بها في طريق التوسع المتكامل والتكاثر المتناسل، يشدد أيضًا على أهمية ترصُّد الكفاءات المتفرّدة، وإيجاد الموقع المناسب لها؛ لتقوية الدفع. فمن الجهد المتفرق تنشأ القوة الفاعلة، شريطة أن يتم تنظيمها في نسق وسياق، "ينبغي أن لا تطفأ جذوة الطاقات الفردية بتاتًا، باحتساب ضررٍ قد تسببه، بل على العكس تجب العناية الرفيعة حتى لا تهدر ذرة واحدة من تلك الطاقة، وتوجّه نحو تحقيق الهدف المنشود"[42].

ولا يستتب النظام والتخطيط والانضباط، إلا في جو سمح، يكتنف علاقة الجماعات والفئات القائمة بالخدمة. وكل خلل في الروابط -حتمًا- يسري معه الخلل إلى المشاريع، فيؤذيها ويضرّ بها.

وإن كولن الذي عاش بروحية الحلقة، فهو حتى حين يتفرد وتغيبه الوحدة، يكون في حقيقة الأمر يعيش وسط أخلاء يستحضرهم في قلبه، وينادمهم.. ذاك هو شأن المتبتلين (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)(الْمُزَّمِّل:8)، فلذا هو يرى أن للجماعة بركة تستمدها من رابطة المصافاة في ما بينها، ومن التآخي، ومن الطاعة التي يرى فيها كل فرد من المجموع فضل الآخرين عليه، وأنه لا شيء بوحدته، لولا ما ينعكس عليه من إخوته العاملين معه.

إن مراعاة واجب الانضباط، وتحقيق الطواعية، واستنزال التوفيقات بدعاء الجماعة، و(العمل الخيري أفضل الأدعية وأبرها وأحظاها بالإجابة الإلهية)، والحذر من تعاكس الإرادات، وتصادم الرؤى، وظهور الأنانية لدى المؤطِّرين، هي بعض وصايا مدونة السلوك التي وضعها كولن للعاملين؛ إذ لا ينبغي لرجل الخدمة -وهو في غمرة الأداء والبذل- أن ينسى أنه يسير على هدي أهل الشوق والعشق، فالتجرد يكون من أخص صفاته، وإلا يكون مجرد متربص، ومتدرب، وعليه أن يبذل الجهد الخالص ليرقى إلى العتبة، حتى تنفتح عيناه على النور الوهاج. كما أن الاستعداد بالفطنة، والإسراع إلى استيعاب كل مدد مفيد مما يعرض المجموع، أمرٌ من صميم واجبات العاملين.

ففي ما تقدمه المدنية الراهنة من أفكار ووسائل في مضامير البناء والتسيير والسيطرة على الإنجاز، هو من المكاسب التي ينبغي أن تُنتَقى وتُدمَج في المنهاج، شريطة أن يُعمل على تأصيلها وتكييفها مع روح الخدمة.

إن من شأن اليقظة والتفطن أن يستبقيا باب الاجتهاد والتحسين مفتوحًا، وإمكانات الترقي في الإنجاز متضافرة. الأمر الذي يجعل الخدمة مسارًا يستقطب الأجيال، يلتحقون بها من مختلف الاختصاصات والاستعدادات، يضيفون إليها أدوارًا بعد أدوار، ويمضون بها قُدُمًا. فالنهضة استرسال وصعود في المدنية والأخلاق، والتاريخ حلقات يتنافس الأجيال في كتابتها بما يبذلون من أعمارهم وأعمالهم.

على أن يكون الحرص الحريص في كل ذلك، هو أن يجعل العاملون من قاعدة الإيمان بالله مقياسًا أوحد للنجاح في كل شأن ينجزونه أو هدف يراهنون عليه.

[1] التي نأمل أن لا تكون مخيبة.
[2] يقول كُولن: "والحقيقة أن الحب الحقيقي يبدأ بهذه الخطوة الأولى. وإذا جئنا إلى مشاعر الحب الفطرية عنـد الإنسان كحب الإنسان لوالديه وزوجته وماله... الخ، فيجب أن يكون هذا الحب ضمن الإطار الذي أمر به الله تعالى، وإلا ساق الله تعالى عبده إلى امتحانات في الحياة الدنيا بمختلف الوسائل ويؤاخذه عليه، أو يؤخر ذلك إلى يوم القيامة. والخلاصة أن المؤمن هو إنسان متوازن وعليه أن يحفظ هذا التوازن في كل آن ويصونه في وجه جميع رغباته الأخرى وشهواته". (أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:78).
[3] (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)(الرَّعْد:38)
[4] يقول كولن: "إن عالمنا (...) يمكنه بعد زمن العطل العابر أن يحرك مجددًا كل الأرواح والأدمغة المنورة، فيحقق النهضة العالمية الثانية أو الثالثة". (ونحن نقيم صرح الروح، ص:30).
[5] أي تدفق الخيرات والنعم.
[6] الأثر الممتد على الأرض، الذي ترسمه الخطا وتعمّقه، فيغدو مسلكا للعابرين.
[7] نسجل حتمية إفلات الإنسان بمرور الزمن من قبضة السمعي البصري التي تحاصره اليوم، وتملأ حياته بموادها الإرسالية المختلفة، وإن مستقبل السينما مثلا، سيكون هو مستقبل الدراما اليونانية والرومانية التي طوى الزمن صفحتها، وبتنا نتعرف عليها من خلال أطلال مدارج مسارحها الأثرية.. فالإنسان يشب عن الطوق ويتجاوز الأطوار الثقافية التي تستلبه خلال عهود قد تطول، لكن الذي نخشاه أن يقع في براثن ألوان أخرى شر من السينما كما يتعاطاها التصنيع الهيليودي اليوم.
[8] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:163.
[9] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:58.
[10] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:18.
[11] راجع ما يقوله عن الدولة، وما ينبغي أن تتسم به من صلاح؛ كي تنهض بالمسؤولية التاريخية والحضارية المرجوة منها.. في كتاب: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:102.
[12] انظر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن.
[13] انظر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن.
[14] راجع: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:49-61، لاسيما ص:55.
[15] نقصد نظام الهيكلية الذي تتبعه.
[16] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:56.
[17] في المثل العربي: "تَجُوعُ الحُرَّةُ وَلاَ تَأكُلُ بِثَدْيَيْهَا"، انظر في شرحه مجمع الأمثال للميداني، 1/122.
[18] رواه البخاري، رقم الحديث:4343؛ رواه مسلم، رقم الحديث: 1733.
[19] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:15.
[20] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:98.
[21] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:99.
[22] انظر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن.
[23] انظر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن.
[24] انظر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن.
[25] راجع: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:13-17.
[26] انظر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن.
[27] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:58.
[28] أي أن الثقافة تستقيم باستقامة المنحى الأخلاقي الذي تأخذه، وتعوجّ باعوجاجه.
[29] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:79.
[30] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:29.
[31]
[32] لفظ الأصولي أوintegriste هو من أسوأ السِّبَاب، ومن أكبر التهم التي يتداولها التقويم السياسي والأخلاقي والمدني الغربي اليوم، وللأسف ترانا نجاريه في الاستخدام.
[33]
[34] انظر: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن.
[35] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:34.
[36] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:20.
[37] ونحن نقيم صرح، فتح الله كولن، ص:89.
[38] انظر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن.
[39] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:47.
[40] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:93.
[41] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:44.
[42] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:44.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.