الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

اختيار الأطراف ذات القابلية للتحاور

إن مبدئية الحوار الحضاري التي يشدد عليها كُولن، أمر لا مناص منه، استنانا بسلوك الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- مع مَن حاورهم في عهده من أساطين القوى العالمية آنذاك. فلقد توطدت الصلة بين الإسلام وبين عظيم الحبشة، لأن الرسول الأكرم، أدرك ما لصاحب تلك المملكة من أهمية في مجال إشاعة الدعوة، وجلب الأطراف المحاورة لها، والمتعاطفة معها. ولقد رأى كُولن في طريقة مخاطبة النبي للنجاشي من خلال الدخول إلى نفسيته من باب ما يعهد من تعاليم عقيدته، حيث حدثه عن مريم والمسيح، أن المنهجية النبوية تبين لنا أهمية أن نحدث الآخر بموضوعات قريبة من معتقده وكتابه.[8] لقد كان ذلك التواصل النبوي الشريف مع النجاشي أظهر إعلان على عالمية الدعوة الإسلامية، وكان في الكيفية التي أرسى عليها النبي تلك العلاقة منهاج للأمة تقتديه في سعيها اليوم من أجل نشر الإسلام وتوصيله إلى العالمين.

إن الجزيرة العربية وهي ترى أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- في تلك المرحلة البدئية، بما شابها من ضعف وقلة ناصر، ينتهون إلى الحبشة، ويحظون بضيافة ملكها، قد شعروا بما للأمر الدعوي من خطر. ولذا فإن المشركين لم يقصروا في العمل على الاعتراض على تلك العلاقة، وكان سعيهم ذلك مستهل التحول الرؤْيوي الجاد الذي حصل لهم، إذ ما عتَّموا أن رأوا الكفة تجنح نحو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأحست القبائل ذاتها بطروء شيء ما على قناعاتها، يحدوها للتفتح على الدين الجديد، فتهيأت بذلك الأقوام العربية لأن تدْخل في دين الله أفواجا. لقد كان تأثير العمل التواصلي الذي قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الحبشة، كبيرا، وإن اختيار الطرف المحاوَر كان من السداد بحيث أعطى ثماره المعنوية، وكان في الإمكان أن تتوجه الجماعة المسلمة اللاجئة إلى البلاد التي كانت خاضعة لروما الكنسية، لكن تقدير الرسول أن إفريقيا كانت أكثر استعدادا لتقبل الحوار، جعل التوجه يخصها بشكل عملي، إذ سارت الجماعة المسلمة الأولى من اللاجئين نحو الحبشة، فلقد ظلّت إفريقية (مصر والحبشة وليبيا ونوميديا) مفتوحة على الدعوات الروحية، وكانت الأقرب إلى العرب على صعيد الرؤية الروحانية للكون. فالجو الشرقي كان أكثر تغلغلا في تلك البلاد من غيرها، لذا أثمرت العلاقة النبوية مع الحبشة، وأحدثت الصدى المطلوب، علمًا بأن الرسول لم يستثن من الحوار الكراسي الدولية الأخرى في عهده، إنما الانخراط في بناء جسرٍ للتعامل الحي كان مع إفريقيا، وربما تجسدت ثمرة ذلك الجهد التواصلي أيضا في التجاوب الإيجابي المصري معه -صلى الله عليه وسلم-، وفي زواجه من ماريا القبطية.

من هذا الاعتبار المنهجي يؤكد كولن وجوب أن تحسن جهات العمل الدعوي اختيار الأطراف ذات القابلية للتحاور، وأن يتم مخاطبتها بما يتلاءم مع ثقافتها ومدنيتها؛ لأن المحاور الذي يجهل قواعد التداول، ولا يراعي بيداغوجية التواصل، ينتهي إلى الخيبة، وقد لا يفلح حتى في لفت النظر إليه، بل قد ينتج عن ذلك الجهل بشروط الحوار، النفور من الإسلام ومن المسلمين، وهو ما نشاهده اليوم، إذ إن سيرة كثير من المسلمين في المهاجر، ورعونتهم، وعدم تقديرهم لمسؤوليتهم إزاء الإسلام، تجعلهم يبدون حتى في المظهر الخارجي النابي عن ذوق ومدنية الآخر، حيث يعيشون، على صورة شاذة، ومجسدة للتهوش والبدائية، وكان حريًّا بالمسلم أينما كان، أين يتوسل إلى الدعوة إلى الحق بالكيفية الناجحة، والسلسة، والمتدرجة. فأقل مكاسب الأمّة لو أنها عرفت السبيل الأنجح إلى توصيل قيم الإسلام السمحاء، أن تتجنب ارتدادات العداء التي لا تفتأ تغذي أسبابها اللوبيات الحاقدة على الإسلام.

إن التأثير في الآخر يتحقق عن طريق الظهور المدني والصناعي المتميز، وبما تكسبه الأمم في مجال التدافع والتنافس، وهو ما لم نتهيأ له بعد. إذ أغلب الأقطار الإسلامية رهين التخلف، ويتحقق التأثير كذلك بالمسلك المثالي، والرجاحة المعنوية المعبرة.

لا بدّ للدعوة أن تعمل على بث الطمأنينة في البيئات التي تنشط فيها، حتى داخل المجتمع الإسلامي. وإن شرط الاستئلاف أمر أساسي في كل جهد تنويري، إذ إن الثقافة المعاصرة صلَّبت في النفوس روح التعنت والاعتداد، وطمست في الضمائر منابض الإيمان والقداسة، لذا بات يتعذر على الداعية ورجل الخدمة أن يحقق الهدف التنويري ما لم يتسلحْ بترشيدية تأخذ بعين الاعتبار سيكولوجية مدنية الراهن، واستفحالات الغلظة والتهمج الروحي فيها، وأن يدرك مدى ما يسكن قلب هذه المدنية من كراهية وتحامل شرس على الإسلام بخاصة. وإذا كانت الحال هكذا فكيف للمسلم أن يتسبب في تهييج الجموع المسعورة ضده، وهو يرى أن سياسة الإثارة والاستفزاز والعدوان باتت من صميم أيديولوجية بعض الأوساط الغربية في رؤيتها للإسلام.

إن التميز التشكيلي المنتظر أنْ تحققه الحضارة المنشودة، يكون ذا معنى وفحوى متى حرص على إرساء خصوصيات الإسلام، وإبراز كفاءة هذا الدين المثالية في التجاوب مع مطامح الإنسان، بغضّ النظر عن زمان هذا الإنسان ومكانه. إذ كما يوفر الإسلام للإنسان شرط التحصين الذي يقي الإنسان من مخاطر الزلل التي طفقت تعصف بالمدنيات عبر العصور، يوفر كذلك له شرط الحرية وانفساح المجال واسعا أمامه لأنْ يستثمر إمكاناته في الخير والتعمير وتحقيق دوره في الخلافة في الأرض.

الإنسان الغربي قتل فكرة الألوهية، وها هو يقتل نفسه. وإن استنقاذ البشرية من هذا المصير المشؤوم لا يكون إلا على يد المسلمين ووفق تعاليم الإسلام.

وفي انتظار تهيُّئ الشروط التي تمكّن من إرساء مدنية الإسلام، على الأمة أن تعمل بلا كلل على تحقيق التميز، وسد باب التردي.

إن السد الذي أخبر القرآن بأن ذا القرنين أقامه حاجزا بين أهل الإيمان والكفر، يجدر بنا أن نقيمه على الصعيد المعنوي، لكي يقينا من رياح التدمير، ريثما تتهيأ الشروط، فننهض ونعود لحماية العالمين من شرور النفس وزيغانها المبيد.

يقول كُولن: "الأفكار مناطة بالتطبيق وإلاّ بقيت أحلامًا وردية"[9]. كثيرًا ما سجَّلنا للأستاذ كولن واقعيته الفكرية، وقصدنا بالواقعية الفكرية هذا التمثل التوصيفي للواقع، والترصد الإحصائي الحسي والسببي لمكوناته، والتصور العملي لمعضلاته وتعقيداته.

ومن المؤكد أن قطاعاتٍ لا تنتهي من التفكير البشري لا تفتأ تتفق في كل عصر وكل منعطف على تخيل حلول، وافتراض بدائل، يتحسن بها الواقع الإنساني ويستقيم، لكن جلّ ذلك التفكير -لقصور النظرة- يظل مجرد تحويمات فوقية، لا تمتلك قابلية القبض على كيمياء الأوضاع المدنية والحضارية، وتحويلها في الاتجاه الذي يُحدث الانفراج.

نسبة كبرى مما تخطّه أقلامُ أهل الفكر يُعدّ -عند التمحيص- تجريدًا ذهنيًّا، وافتراضًا تصوريًّا لا سلطان له على الحياة، فهو من قبيل الإنشاء ليس إلا. وإن كثرة كاثرة من كتابات المفكرين والأيديولوجيين والمنظّرين هي في الحقيقة أصداءٌ لأدبيات الميتافيزيقا، كما تعاطاها الإنسان في القديم، بل إنها صدًى معاد، ونُسخة تتكرر على الدوام، عن حلم المدن الفاضلة؛ إذ يذهب الجنوح التنظيري بأصحاب هذه الكتابات إلى خارج مدارات الواقع، فيخبطون بعيدًا عن الموضوعية، من حيث يحسبون أنهم يُفَعِّلون الواقع، ويضعون أسس تغييره.

مما تميز به فكر الأستاذ كولن أنه يقبض بقوة على مبدأ الواقعية، ويتسم -أصالةً- بها؛ لأنه يعي أهمية الدور الذي يجب على المفكر المسلم أن يلعبه في عهود الخزي التي لا تزال الأمة تعيشها منذ قرنين تقريبًا. إنه دور استنقاذي، استعجالي، يسدد نحو الغايات بلا توانٍ أو تردد، انعطافًا بالأمة نحو الصحوة والمعافاة.

من واقعية نظر كولن، أنه يشترط توفر الدولة الحرة لتنفيذ المخطط النهضوي الحضاري، فأهم أركان عملية إنجاز الحضارة -بحسبه- هو الإنسان المؤمن المؤهل، وأقوى أسسها الحيوية هو دولة حرة ومستقلة، وأثمن رؤوس أموالها هو الزمن.[10]

ومن المؤكد أنها نظرة موضوعية، ومتزنة؛ إذ ما أكثر ما رأينا أهل الفكر المعارِض للنظم الشمولية يجعلون في أولوية شعاراتهم الدعوة السافرة إلى الثورة على الدولة، والانقلاب على نظمها؛ توسلاً لتنفيذ أي إصلاح أو تعديل في البنية والمعطيات المدنية. لكن الأستاذ كولن، بواقعية تقديراته، يرى أن دور الدولة أمر أساس في الإقلاع الحضاري، غير أن كولن يشترط للدولة أن تكون حائزة على مقوّم الحرية؛ لأن الدولة الحرة هي المؤهلة لخوض التغييرات الكبرى، وإنجاز الوثبات الأبعد. ذلك لأن كولن صاحب فكر عملي، استمد مقومات تفكيره من خلال ملابسة واقعه الوطني، وارتباطه به، وأيقن أن شمولية الرهانات المصيرية، والتحولات الكبرى، إنما تتحقق على يد الدولة المرَشََّدة التي تدرك دورها، وتنهض به، فتشمل بجناحيها سائر مكونات المجتمع، وتؤهبها، وتدفع بها نحو الغاية الانبعاثية، الأمر الذي يختزل الوقت، ويحقّق النجاعة والفاعلية في تحقيق الأهداف.

حقًّا إن كولن يرى أن الإنسان الفعّال، المتجدد في روحيته وجدارته، هو الطرف الأبرز في صناعة النهضة، لذا فإن خطة تهيئة وإيجاد هذا الإنسان؛ إذا ما تمت برعاية الدولة تكون أسرع وأشمل، عكس ما يكون عليه الحال إذا ما كانت مساعي هذا التهييء والتكوين تجري خارج إشراف الدولة، أو عكس إرادتها، فعندئذ يكون الجهد سباحةً ضد التيار، وتنشأ علاقة الاعتراض والقمع التي تعيق أي صحوة، بل وتصادرها، وتضطرها إما إلى الانطفاء، وإما إلى العمل في جنح السرية والتخفي، مع ما يكون في ذلك من مخاطر على العاملين، ومن ضآلة ومحدودية على مستوى المردود والنتائج العائدة عليها.

هناك أنانية وقصور تعكسه أحيانًا شعارات دعوية تعتمد العمل التنظيمي الحصري، فكأنها تجعل من العمل التكتلي غايتها، فهي من ثَم تقصد إلى تحقيق الكيان الفئوي، أو التنظيمي، أكثر مما تهدف إلى الخدمة والبناء.

لا ريب أن الضغوط السياسية والأيديولوجية القامعة تحتّم على العاملين انتهاج سبل التستر والحذر، وإن من طبيعة هذا النوع من العمل -غالبًا- التزام التنظيم الهيكلي الخفي. فمساحة التحرك والتأثير ضيّقة، ومحفوفة بالتهديدات، ونتائجها غالبًا ما تكون بطيئة، ومتعسرة. وإن الاستمرار على اتباع نهج الحذر والتحفظ إنما تسوّغه روحية الثبات على الموثق، والحرص على المضي في الاستصلاح، ولو على نطاق محدود، وعدم إلغاء راية الدعوة على أمل أن تتهيأ الظروف الأفضل والأوفق للعاملين. من هنا رأينا الأستاذ كولن يقرر أن النهضات تنفّذها الدول الحرة، فهي التي تضمنها وتعطيها الصبغة الوطنية والقومية، بحيث تغدو رهانًا جمعيًّا، ومقصدًا مركزيًّا تتضافر على بلوغه الإرادات الخيّرة والجهود المباركة.

لا ريب أن مبدأ إناطة النهضة بالدولة الحرة -كما رسم كولن- إنما أسَّست له تجربةُ العمر، وتَقلُّب الأوضاع بالأستاذ في مجتمعٍ سارت به سياسة التغريب على طريق الانسلاخ والتفريط في الهوية الأصلية.

ذلك لأن التقدم بالعمل الدعوي، باعتباره خطة نافذة وفعّالة في اتجاه البناء والتسديد، ظل يدبّ دبيبًا تحت ضغط القمع والمنع، قياسًا إلى الآمال التي كانت تسكن أعماق الأستاذ، وبالنظر إلى الدافعية العارمة التي لبثت تحرّكه وتجعله يوقف حياته على حلم تعميم الاستفاقة وتجذيرها في مجتمعٍ كانت آليات الأسْلبة والسلخ تفعل فعلها المنكر فيه، بعنادٍ وبلا هوادة.

أجل، كان الأستاذ يدرك أهمية تلك الأحجار القليلة التي يضعها أساسًا لليقظة، وقيمة تلك الخطوات التي يقطعها بكل جهد وإجهاد على طريق توطيد الصحوة، وكان موقنًا بأن ضم موضع شِبر إلى الأرضية المضاءة بنور الدعوة، هو فتح مبين.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.