الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

دور المثقف في النهضة

لقد زحف الغرب واحتل الأوطان وأورثنا طبيعة سلبية قطعَتْنا عن إرثنا ونظمنا، وغرست فينا قابلية استنساخ قيمه واحتذائه في عوائده، فأضحت النخب مستلبة، قصاراها أن تسدد في رهاناتها على مقاساته وتوجهاته، يحملها على ذلك الاستنساخ ما تراه عليه من تطور، فيتهيأ لها أنها بذلك التشبُّه السطحي ستحقق النهضة، ناسية أن النظم والثقافات، وإن توسعت من حيث أصداؤها وآثارها وانتشارها، إلا أن اغتراسها لا يكون أصيلا في تربة خارج تربتها الأم. وإن الديمقراطية التي قضى بها الغرب أطوارًا من التفاهم والسلم الداخلي والإنجازات التداولية، نراها اليوم تتكشف هناك في موطنها بالغرب ذاته، عن مطاعن وإعلالات عضوية فادحة؛ إذ إن لعبة الأحزاب في بلاد الغرب لا تَسْلَم من الانسياق لقوى خفية تتمثل في لوبيات تتحكم في حركة المجتمع وتدير لعبة التداول وترجح الكفة في المقام الأول، ليس في اتجاه ما يصلح أحوال الشعوب، وإنما لصالح تلك اللوبيات ذاتها، لكن بمخادعة تمويهية توهم الشعوب وتصور لها أن السجال الحزبي، هو عنوان الحرية والتنافس النـزيه. إن في الديمقراطية حسابات تضبطها وتتحكم فيها قوى المال والإعلام والفن وقوى تجارية شتى.. فهذه القوى العالمية هي التي تصنع الأيديولوجيات، وإن قبضتها في هذا المجال لواضحة.

ستمضي علينا عقود ونحن سادرون في لعبة تعلم ديمقراطية الغرب، حتى إذا حذقناها، وجدنا الغرب في أطوار أخرى، سنحاول أيضا اصطناعها تشبها به، وهكذا، بحيث ستمضي المراحل وهَمُّنا هو تلقّي المدنية والنظم والقيم من الآخر، لا يؤثر فينا ما نراه عليه من ترنح، إذ إن مدنيته الماضية على طريق التحلل من قيم الحق، انتهت إلى مرحلة التراجع، وهو يسعى اليوم إلى أن يجدد من حيويتها، لكن حتمية انطواء الكتاب[3]، يجعله يعجز، ما لم يغير من روح هذه المدنية نحو الوجهة التي تتصالح فيها مع المثل الإنسانية، وتتخلى عن الرعونة والتربب والضلال.

الأمة المسلمة مطالبة بأن تؤصل نهضة عالمية ثانية[4]، وترسي لها نظما نابعة من روح شريعتها.. فمبْدأ خشية الله والإيمان به، ركْن مركزي في أي رهان يراد له أن يكون فتحا حقيقيا ينعطف بالإنسانية نحو السعادة المنشودة؛ بل إن خشية الله هي الركيزة التي تستتب بها سائر التوازنات التي تكفل الخير للإنسانية، وتضمن الكمال والعدل والأخوة لبَني البشر.

لا ريب أن كُولَن يستشرف هذه الآفاق التي باتت مفتوحة حيالنا، والتي نَعْشَى أن نراها نحن الذين ترسَّبَ في أعماقنا اليأسُ من النهوض.. فكُولَن يؤمن بأن الأمّة المحمدية قد حان دورها في الانطلاق، وأن قانون التداول على البناء الحضاري الكوني، قد آذننا تارة أخرى، وهو يحدونا اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى أن ننبري لإقامة النهضة العالمية الثانية.. هذه النهضة التي لا مناص من أن نظل ماسكين بزمامها على الطريق القويم، بحكم الموثق وبالنظر إلى أهلية وعالمية عقيدة الإسلام التي شرّفنا بها، والتي ستظل هي عامل الانبعاثات الحضارية التقويمية على مر العهود والعصور، وستبقى مصدر الوثبات التي نستقل بها القطار كلما عثر بنا القدم، فبفضل هذه العقيدة لن يقعد بنا أي تخلف أو انحطاط -مهما طال- عن الانتفاض وتجديد العزيمة، فنحن أشبه بمن ملك عنصر النار، لن يعدم توليد الطاقة أبدا.

وحتى يدور المحرك ويتسارع الزحف، لا بدّ من أن تتضافر جهود الأمة وتتشابك الأيدي والقلوب وتركز على هدف الانبعاث الذي سيخلصنا جميعا من الخذلان.

إن من واجب النخب العربية أن تعزز التقارب بين أقطار الأمة المسلمة. واليوم إزاء تركيا بتوجهها الجديد، والميمون، يجب علينا أن نعمل على تقوية التقارب، بل وعلى تحقيق الاندماج. ولن يضيرنا -إذا ما كنا أهل استشراف سديد- أن نتقارب مع تركيا حتى ولو -افتراضا- نجحت في الالتحاق بالحظيرة الأوروبية، ذلك لأن أي تحصيل ارتقائي يصيب جناحا من الأمّة، ينعكس حتما على باقي الأمة، ولو معنويًّا.

لنا العبرة في الغرب الذي يتأجّج بينه استعار التنافس الاقتصادي، لكنه يقدم مبدأ التضامن على مبدإ التفرق؛ إذ كل نجاح تحققه إحدى دوله يوظفه الغرب اليوم في تعزيز البناء المشترك، ألا نراهم والأزمة تعصف بهم، والشعوب -تحت ضغط البطالة- تدعو إلى الانكفاء القطري، لا يفتأون يضخّون المئات من الملايير، استنقاذا لميزانيات الدول التي انهارت خططها.

مسؤولية المثقفين العرب أن يتجاوزوا مطبات التنفير والتخويف وإثارة النعرات الشوفينية والعرقية وخلافات الماضي وسقطات التاريخ، ولنا أن نقتدي بالغرب أيضا في الروح التي تجاوز بها تَكَبُّداتِه في حروبه المدمّرة؛ إن ألْمانيا وفرنْسا تترابطان اليوم بوحدة عضوية تمليها المصالح والإستراتيجية، لأن الفرقة تعني الضعف وفقدان المكانة الدولية.. إن وحدتهم تضمن لهم السور الذي يقيهم التجاوز الذي يتهدّدهم من قِبل الدول الناهضة شرقًا وجنوبًا.

لقد ورثنا ثقة ساذجة واعتقادا أعمى في مثالية النظم الغربية التي حكَمَنا بها، وفي سياساته وديمقراطيته، وتجمَّدْنا عندها؛ فتَوَطَّنَتْنا روح الانكفاء العرقي والتقزّم القطري، ولم تكن الأمة إلا ملة واحدة حتى حين كانت تحكمها خلائف ودول وأسر تتوزع الملك بينها. فالشعوب والحركة والتعامل والشعور الراسخ، والانفتاح الإقليمي والجغرافي بين أبناء الأمّة وعلمائها وتجارها وطلابها وخبرائها، ظل يحتفظ بالجسرية البينية التي استندت على دعائم العقيدة الواحدة، واليقين بالمصير المشترك. ولقد ظلت العربية لسان الجامعات المسلمة، وكان في ذلك التوحد اللساني ضمانا كبيرا لوحدة الشعور.. وإن الضرورات والضغوط لتزداد اليوم إلحاحا، لتجعل من العربية والقرآن والحس المشترك عوامل التوحد والتأحد، التي لن يغفر لنا التاريخ التهاون في إرسائها.

إن الابتزاز الذي نراه يزداد علينا شراسة، والقبول المذهل لوضع الفريسة التي نحن عليها حيال وحشية رأسمالية غاشمة، تقتضي منا العمل السريع والجاد والصارم على تخليص أنفسنا من براثنه. إن فَرْشَةَ[5] النفط وحدها هي التي تجعل شعوبا منا لا تستشعر اليوم ما يقع لها بأنياب الغرب.. وإن ثروة النفط لا ينبغي أن تنفد دون أن تفيد منها الأمة ما يساعد على تحقيق النهضة التي تجعلنا في مصاف الأمة الواقفة.

إن مناشدات التقارب والاندماج التي ينادي بها كُولن، تندرج ضمن هذا المنظور الخلاصي الذي لا بدّ وأن يثير قلَق القوى التي تجد في الوضع التفكّكي دوام مصالحها النخبوية.

لا بدّ أن يشتغل أهل الثقافة والفكر والفن، فضلا عن الساسة والباحثين في المصير الأممي، على إبراز المكاسب التي تجنيها الأمة حين تتداعى إلى الترابط والتقارب.

إن إثارة غبار العرْقية، والعنصرية، والإحَنِ -التي لا بدّ أن يطويها النسيان-، والاعتراض المعلن أو المقنَّع على دعوات الاندماج والتخطيط المشترك، هو الرد الطبيعي الذي لا يفتأ يسوِّغ به أهل النظر القصير سياساتهم الانعزالية، ويموّهون به على حساباتهم الخاطئة.

إن العولمة تفرض علينا أن نرسم بيداغوجية تعليمية وإعلامية يكون حجر الزاوية فيها هو تلقين الشعوب والناشئة حتمية العمل الجاد على تحقيق التلاقي والتقارب والترابط العضوي، ذبا عن المكانة، وكفالة لأسباب البقاء.

إن مفهوم الوطنية لا يلغي استراتيجية الاستقواء بِالأخ، ومَدِّ اليمين إليه. إننا نرى أوروبا تمسح اليوم ديونًا أسطورية لدولة اليونان، دعما لجدار الوحدة بين شعوب القارة العجوز.

لا زلنا نسمع في همس الأبواق التي لا بعد نظر لها، أن الدعوة إلى التقارب التركي العربي خطّة تحمل في طياتها العمل على إحياء دولة الخلافة. إن الغرب اليوم يبني خلافته، وهو يحترق كي يضمن لها الْمتانة، لأنه يراها السدّ المنيع الذي يحفظ له سؤدده ومكانته الدولية.

إن الحلم برجعة الخلافة أمر غير وارد، لأن التاريخ لا يتراجع إلى وراء، وظروف اليوم غيرها أمس.. إنما حلم الأمة أن تقيم النظام الجماعي، التجمّعي، الذي يكفل لها العزة، كيفما كانت تسمية وشكل هذا النظام التجمعي، الجماعي، حلم يثوي في جوانح كل مسلم، بله الطوائف المتنورة من أبناء الإسلام.

يكتب المثقف للشعب، وكثيرا ما يكون إدراكه لأحلام الجماهير ناقصا، أو أن رؤيته لا تبلغ من حيث السداد، ما يجعلها تتنـزل جلوات تنويرية تحمل الوعي وتقوّي لدى الفئات قدرة التوق إلى التغيير. فأقصى ما يركز عليه هذا المفكر أن يعاين الأوضاع والانسداد، ويواصفها بنوع من المشاركة العاطفية، فيكون بذلك يتحرك على أرضية الشكوى العامة والتخبط المرير الذي يعم الساحة، فهو من ثمة يساير الجماهير في انفعالاتها، وربما جاءت روحه من الانسحاق والأنين ما ترى فيه الفئات ترجمانا عن مواجعها ولواعجها، فيرسو هو عند محطة الدغدغة مكتفيا بما بات لديه عندها من صيت. فدوره هنا هو دور باكية الملمات والمعددة التي تحيي مجالس التعزية والحداد.

ويكتب المفكر باسم الأمة وبروحها وبجراجات وجدانها، ويتعمق ما يسكنها من اعتلالات ولواعج وآلام، فترشح أنفاسه نزفا وجمرا وتفتّت كبد، ولا يكتفي بذلك في المناسبات أو حين يصعد المنصة، أو يعلو المنبر فقط، بل إنه يصهر حياته وسيرته والعقود التي يقضيها في المبارزة في المَجْحَمِ، فلذا تأتي الآهات والتأوهات التي يرسلها في كل حرف يحرره وفي كل لفظ ينظمه، مصهورة، مذابة، جاعلا من نفسه على ذلك النحو، شعلة تتّقد لتنير الطريق للأمة، وتكشف لها المريرة[6] التي تخرجها من التردّي إلى الحياة.

هؤلاء الجلة، القلة (بل الندرة) هم الذين يظلون وراء الستار محجوبين بامِّحائهم، لكنهم، ولأصالة المبدإ الذي يعتنقونه، يتمكّنون آخر الأمر من أن يخترقوا سور الحصار، وينفذوا إلى قلب المشهد، ويشدون إليهم الجماهير، ويسيرون بهم فرادى وأشتاتا ثم جموعًا وشعوبا، يصنعون ما وعد الله أن يصنعه المتقون العاملون.

إن كل تأمين على دعاء هؤلاء السادة، وتأييد لما يقومون به من أسباب الإنهاض باستماتة وامِّحاء، وكل دعاء لهم واقتراب منهم وانضمام بالقول والفعل إلى معسكرهم، وكل تقوية للصرخة الإيقاظية الثورية التي لا يفتأون يرسلونها وسط الجموع الشاخصة إليهم بمواجدها، السائرة معهم وخلفهم نحو الأهداف الكبرى، هو جهد يجزى عليه الإنسان، لأنه استجابة إلى داعي الخير.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.