الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

المصلحون والاحتراق الذاتي الدائم

فعلى الرغم من يقينهم بأن البركة هي بعض ما منَّ الله به عليهم، إلا أنهم يجدون ما تضمنته رزنامة التغيير والبناء التي يراهنون عليها، أكبر مما تسعفهم به الحياة، ويتيحه لهم العمر من طاقة ووقت.. لذلك تراهم يعيشون الاحتراق الذاتي الدائم، تنوء كواهلهم بأحمال كالجبال الراسيات، يستغرقهم عمل دائب لا ينقطع، هو تسبيح صميم، ويستنفدهم استغراق عميق في البرازخ، هو عين العمل والكد، يمضون دائبين على الحداء وتجنيد ذوي العزائم، مشددين على إيجاد المدود التي يطمئنون بها على مواصلة ما دشّنوه من طرق العمل والبناء؛ إذ يعتبرون أن الدأب على فعل الخيرات هو أوكد الواجبات التي يعيش لأجلها المؤمن، فالحياة بالقياس إليهم هي مزرعة الآخرة، وأهل الحظ هم الذين يدركون أن الحياة الحق هي دار القرار، إنما الدنيا هي للكدح والتعمير، لذلك جعلوا شعارهم نحن لا نحيا لنعيش، بل نعيش لنحيا.[34]

من حياة التفرد والقنوت استمد كولن مدودًا من التفتيقات الروحية والفكرية عزّزت لديه ما امتلك- بالفطرةً- من قابليات الفطنة والذكاء والتفوق، فلذلك تهيأ لإدارة مشاريع، حجمُها حجم نهضة تراهن على قلب الأوضاع وتجهيز الأرضية للانطلاق الذي لا رجعة فيه.

انظر كيف يَسْتَضْئِلُ خرائط لا تني تتوسع وتمتد عبر القارات، تتمثل في منظومة من المنجزات والمشاريع الإنهاضية، تستنفر الآلاف المؤلفة من العاملين في مختلف الدرجات، والمساهمين في شتى المستويات، والمستفيدين في مختلف المجالات، وهي لا تفتأ يومًا بعد يوم، تثير الدهش والإعجاب والإكبار بتنامي وتائرها، والأبعاد والطرز والمعايير التي تميزها.

من مداومة التوحد يكتسب المفكر إمكانات نفاد ضافية، يستمدها من استقرائه الدائم لسير الرموز والفرديّات. وإن توطين النفس على مساكنة الأزمنة النيرة والعهود الخَيِّرة، وفي مقدمتها عهد البعثة المشرق، وما حققته السيرة المحمدية في مضمار تصنيع الروح، وقلب الأوضاع، والانعطاف بالتاريخ من اتجاه إلى اتجاه معاكس، في أقل من عشريتين، ثم ما أنجزه الراشدون في بحر عِقد من الزمن، نضدوا خلاله الأرض، وساسوا إمبراطوريتي البغي والطغيان (فارس والروم)، وبسطوا الجناح على مركز الأرض، واستظلوا أممها تحت راية الإسلام.. إن توطين النفس على التأمل في كل ذلك، وفهم أسراره وقوانينه، لهو أعظم غُنْم وأثمن كسب يمكن أن يستحصله الدارس والمستقرئ والمتفحص من صفحات ذلك الماضي الذي أسّس لميلاد حضارة الإسلام، ووفّر لها تلك الاندفاعة التي استرسلت قرونًا، لوّنت خلالها الدنيا بألوان الإسلام الزاهية.

فبصيرة المتبصر تزداد جِلاء باسترفاد تجارب التاريخ ومواعظ الشريعة؛ لأنها ستستوعب في متنها أرصدة ذهبية من العبر والتسديدات التي تساعدها على الفوز.

ثم إن القائد يجد في الانخراط في مهام البناء، وما يقتضيه ذلك من اضطلاعه بأعباء القيادة، مجالاً آخر لمدود أخرى من التوفيقات والخبرة، يستخلصها من التحامه بالواقع، واشتباكه مع التحديات، وبذلك تغتني رؤيته، وتكتسب المرونة والواقعية؛ لأنها تراهن على النفاذ والفاعلية تحديدًا، ولا استعداد لها أن تخطئ في الرمية؛ لأن من يجعل هدفه الأسمى هو تحقيق النهضة، وتجاوز العثار المزري بالمكانة، واللحاق بالركب، لا يمكن إلا أن يكون أشد ضنًّا بالوقت والإمكانيات.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.