الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

الدولة، القائد، الأفراد والبناء الحضاري

إن تبني الدولة لمشاريع النهضة أمرٌ من صميم اختصاصها؛ إذ لم تنشأ الدول ونُظم الحكم إلا لكي تجتهد وتجنّد هياكلها الإدارية ومؤسساتها المركزية، ووسائلها القاعدية لصرف الجهود العامة، وتثمير المقدرات المتوفرة، أو الاحتيال لتوفيرها في حال شحّها أو نقصها، وتحويل ذلك إلى إنجازات تعمير ومرافق تمدين، تتوسع بها الحياة، ويزدهر المجتمع، ويؤصل من الأسباب والإرادات ما يكفل اطراد خطاه على طريق الرخاء والصلاح.

يحدث هذا عندما تكون الدولة مالكة لأمرها، سيدةً في قرارها، مطلقة اليدين من القيود التي تشلّ الحركة والإرادة. من هنا رأينا الأستاذ كولن يجعل من عامل الحرية شرطًا تكتسب الدولة به صفة التأهل لإنجاز النهضة وشقّ الدرب إليها.

الدولة الحرة هي القادرة على ضبط خططها، ورسم مسيرتها ووجهتها بالشكل الحصيف والاستراتيجي الذي يجنّبها الوقوع في مصائد القوى الاستغلالية، فهذه القوى بقدر حرصها على استبقاء وسائل التموين حكرًا لها، بقدر ما تستميت في إبقاء الأمم المغلوبة والمتخلفة عالقة في وحل الضعف والتبعية.

ينبّه كُولن إلى أن القيادات والسياسات حين لا توفّق في سوس الأمم ببصيرة وسداد، تكبّد رعاياها من أنواع العناء ما يعمّق من حطتها، ويزيد من انبخاسها بين الأمم.

ومن المؤكد أن السعد معقود على نواصي القادة.. فمتى ظهر القائد الحازم، المتبصر في خياراته، الألمعي في قراراته، المراهن على غايات تعزّز من شأن قومه، وترسّخ مكانتهم، سارت الأمة بخطا ثابتة وعزيمة مكينة، ورؤية واضحة نحو هدفها في المدنية والتعمير.

وإن ظهور قادة الفكر -في تقدير كولن- حين لا يتوفر الحكم الرشيد، يكون أجدى وأنجع في تهييء القاطرة التي تشق المدى بالمجتمع نحو الانعتاق، بل وإنه لَحَظٌّ أسنى، تُغبط عليه البلادُ والأوطانُ.

الدولة الحازمة تختزل المسافة إلى المدنية؛ لأنها ترمي بكل ثقلها في اتجاه تحقيق الغايات، فلذا تعوّل على تشبيب روح العنفوان في الإنسان، وتُربّيه على التمرس بقيم المنافحة والتصميم، وإحباط التحديات بالعزيمة والحكمة والدهاء الذي يكفل النجاح.[11]

الدولة الحكيمة هي التي تنهض بمسؤوليتها في بناء الإنسان، وتثمير الفرص أمامه، بل وهي التي تعمل بلا كلل على خلق هذه الفرص التي تمضي بالمجتمع على سكة البناء المتين. وإن من أهم ما يتجسد فيه رشد الدولة على صعيد التعمير: استغلال الزمن، واستثمار عامل الوقت؛ إذ إن إهدار الزمن هو عنوان صريح على التخلف، والبعد عن النجابة والصواب.

في كل الأحوال تظل مسؤولية النخبة حيال مهمة الإنهاض، مسؤولية لازمة لإيقاد شعلة الصحوة، بل ما أكثر ما انطلقت الشرارة من آحاد الأفراد، فالرموز الصالحة قادة الفكر والروح، هم جذوة يدخرها القدر لبعث الحياة، وتجديد مَطلع الفجر.

وإن بناء محاضن النخب وتكثيرها، هو استزراع يحقّقه الأقطاب النورانيون بكدّهم ومرابطتهم في الساحات، يستقطبون إليهم الخيريين من ذوي النفوس المجبولة على البر وحب الفضيلة. وإن كل جمع من الطيبين تراهم تداعوا إلى العمل الجاد، والعطاء المثمر، إنما يكون اجتذبهم إلى رحابه رجلٌ رباني وقف حياته على العمل الصالح، فليست المجَرَّة سوى مجاميع تترامى في الفضاء العالي، متحلقة حول شموس وأقمار، من حيث تستمد الضوء والانتظام والحركة والوظيفة.

ينفتح الطريق أمامنا نحو المستقبل على اتجاهات عدة، وسبل شتى، فإما أن نستنيم إلى الحال المخدرة التي وضعتنا فيها تاريخيتنا منذ العصر الوسيط، ونمضي في التقهقر، شبه أموات، إلى أن يقع التحلل ونبيد. وإما أن ننغمس في مدنية الآخر بلا وازع ولا ضابط (وهو ما اختاره المتغربون المستلبون)، ونترك مصيرنا منوطًا بتوغل واستشراء هذه المدَنية وتفاقم غلوائها، وبكل ما يلحقنا من شرورها وهي تزدردنا لا يجد منا مقاومة ولا رد فعل.. وإما أن نعيش الغياب التاريخي، مثل رقدة أهل الكهف (وكان لهم ما يبرّر رقدتهم، عكسنا تمامًا)، فتنساب بنا الظروف والأطوار، كورقة جافة، تدحرجها الريح على القارعة، وتكورها السوافي عبر المجاري..

"وإما أن ننفتح على ذاتيتنا، ونلتحم مع ماهيتنا، وننفض الغبار على مقوماتنا، ونستحيي مكامن الوجدان، فينبعث الوعي، وينتعش الضمير، وتتجدد المعنويات، وتنطلق الحياة كرَّة أخرى؛ إذ مقومات الكينونة حين يلابسها دفء الوعي بالذات، وتنقدح فيها شعلة الانتفاض والانبعاث، تسترد قابلياتها الجوهرية في الحركة، وتندفع نحو اتجاه مرسوم سلفًا في فهرست الانتماء، الأمر الذي يجعل القافلة تستأنف السير، والعجلة تنساب في مدارها، وتمضي باسم الله مجراها ومرساها"[12].

إن أهليتنا في بناء الحضارة، والترشح لإدارة مستقبل الإنسانية، أمرٌ مشروع، بل وحتمي، بكل المعايير، وبحكم منجزات الماضي، وما شاده الأسلاف من شامخ العز، وراسخ التحقيقات المدنية والحضارية التي لم يمحها الزمنُ، على الرغم من تزايد لواحق الإبداع الإنساني الذي أعقب غروب شمسنا؛ إذ ما زالت هناك تجليات لا تُحصى، ماديةً ومعنويةً من حضارة المسلمين، حية، وماثلة للعيان، ومنوَّهًا بها، ولا تفتأ الإحالة إليها، والاعتراف بقيمتها، صريحة ومؤكدة ومتواترة.[13]

وإن ما يميز الإسلام أنه أعطى الإنسانية العقيدة التي تظل التشريعات الوضعية تنظر إليه بإكبار، وتبقى مدينةً لها في كل اجتهاد.[14] كما أعطاها الحضارة التي حملت سماته الروحية وسجاياه الفكرية والجمالية، ومحامده الأخلاقية والقيمية، بخلاف سواه من الديانات الأخرى التي ظل نتاجها المدني والحضاري قوميًّا، حصريًّا أو يكاد (الصين، الهند، إلخ).

لقد تبنَّت حضارة روما العقيدةَ المسيحية فدجنتها على وفق مزاج إباحي، أبيقوري، فاضح، وجعلتها عقيدة تُراوِحُ عبر مسيرتها من الشمول الذي أحالها عقيدة ظلامية، منهِكة للإنسان، معنتة له، حائلة بينه وبين ربه؛[15] إلى عقيدة العزلة، والانقطاع، والبعد عن الواقع (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)، فكانت ديانة معبدية، تتكيف بضغوط الحضارة ولا تكيّفها، عكس الإسلام.

وانظر إلى الظاهرة الحياتية التي أخذها الإسلام اليوم، من خلال الأقليات المسلمة المهاجرة في الغرب، والحضور اللافت لهم، ليس في ظاهرة ميعاد صلاة الجمعة الأسبوعي فحسب، ولكن في مواسمه، ونظام حياته، ومعاشه، وأُسس تفكيره، فإنك تدرك أن البعد الانفتاحي هو مَيْسمٌ في هوية هذا الذين؛ إذ ينتهي دائمًا إلى إحداث التأثير، وجذبهم بيسر إلى مبادئه.

إن الإسلام كما يعرفه الأستاذ كولن هو العقيدة التي تهيأت لتكون للعالمين موردًا؛ حيث تأصلت لها سجية الصلاحية في الزمان والمكان مطلقًا، فمن خصائصه العضوية "أنه يدخل إلى أضيق المعابر في الحياة الفردية والعائلية، والاجتماعية والاقتصادية، والسياسية والثقافية، ويجول في وحدات الحياة كلها بصوت العصر الذي هو فيه، ويلفت النظر في كل وحدة من وحداتها بصورة أشد إحكامًا من أحكم شيء واقعي"[16].

من هنا كان التَّوْق إلى بناء الحضارة اليوم، من صميم مقتضيات صحوة المسلمين، وإحساس متنوريهم وأعلامهم الخيرين بأن للإسلام حلولاً ناجعة، في وُسْعه أن يستنقذ بها الإنسانية اليوم -كما الأمس- من تردياتها المخيفة، وتشوهاتها المريعة.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.