الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

إستراتيجية اللاعنف

مما تميزت به رؤية كُولن الدعوية، تجنّبها للمواجهات العنيفة، ومجافاتها للغلظة الإجرائية في المنهج الدعوي وفي الحياة التي تربي عليها الأجيال. فهي دعوة رزينة، متّزنة، بقدر ما حرصت على الدينامية والاستثمار الحاسم للوقت والفرص والإمكانات في بث الدعوة ونشر برامجها، بقدر ما هي حريصة على التوثق لخطاها والتثبّت لخططها، والتبصر لمشاريعها التبليغية والتكوينية. ذلك لأن كُولَن يرى أن الإسلام دين الله الذي لا تزحمه المواعيد ولا تربكه الرزنامات، فلا ميقات محددًا لانتشاره، ولا أجل مضبوطًا لاستتبابه على البسيطة، فهو دين ليس مرتبطا بجيل بعينه ملزم باستكمال نشره في الآفاق وبين العالمين، إنما الإسلام عقيدة هيّأتها المشيئة الإلهية لأن تكون دين الإنسانية. ولقد اقتضت السنن الإلهية أن الهداية الروحية تستقطب البشر كلما ازداد شعورهم بالحاجة والضياع واللاّأفق.

هناك يُقلِّبون النظر في الأرجاء، يتطلّعون لعل أن يسعفهم صوتٌ يضعهم على الجادة. وما أكثر ما يتوهّمون في الْتماعات السراب أدلّة وهداة، لكنها لا تلبث أن تتراءى لهم مجرّد أشباح لا حقيقة لها. عندئذ يهرعون إلى السماء، إلى تبني كمالات الشرع، والاستجابة إلى نداءاته. ولقد استقر الإسلام في البقاع التي دخلها، وتجذر بين الأمم التي ذاقت شَهْدَهُ، لأنها وجدته يجسد السقف الأعلى من المكارم والمثل التي تُكبرها الفطرة ويُؤْثِرها الحسُّ السليم. من هنا استمر تقديس هذه الأمم لدينها، لا تزيده الصروف والأطوار، مهما تردّت وقست، إلا تغلغلا في النفوس، وتمكنا في الضمائر. وإن الهزائم والتراجعات والتمحيصات التي ما فتئت الشعوب المسلمة تلقاها منذ قرون من الانحطاط، لا يجد لها المسلمون بمختلف مشاربهم وطبقاتهم تقريبا، من تبرير إلا في حيدتهم هم عن النهج الشرعي، ومجاوزتهم للقواعد والأسس التي وضعها الإسلام أرضية للحضارة ولدوام سعادة الإنسان.. فلا يزال المسلمون يُحمِّلون أنفسهم مسؤولية التخلّف والقعود على الهامش والعجز المخزي وافتقاد الكرامة الشنيع، وليس الإسلام الذي يوقنون أنه كفل لهم في الماضي السؤدد، وأن من شأن العودة إلى حظيرته، أن تعيدهم إلى السبيل القويم الذي أهّلهم إليه القدَر، باعتبارهم خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتَنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

فبهذه القناعة يرجح كولن النشاط الدعوي الهادئ الدؤوب، على العمل المنفعل المعرض للتقطع والتعطل.. فلئن تستمر في التقدم بريث وثبات ومردودية، أفضل من أن تقفز بعجلة لكن بمجازفة ومن غير ما طائل.

إن السداد في تنفيذ الخطط والبرامج يتعزز ويعطي نتائجه حين يترسخ في صورة حراكات متصاعدة الفعل، ووتائر متلاحقة الأداء، وتوسعات متزايدة المساحة، وقطاعات مترابطة الأواصر. فبذلك التواشج العضوي، والدأب المسترسل بلا هوادة ولا خلل، يتم البناء ويَطَّرد سبيلُه، ويضحى نهجا مدنيا تغتني به حياة الأفراد والمجتمع، وتكتسب صبغة الاحتسابية التي تضمّنتها الآية القرآنية في قوله تعالى موجّها الأمة إلى ما يحقق سعادتها في الدارَين (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ)(التَّوْبة:105).

إن شرط الخلوص القلبي الذي يُمَعْيِرُ به كُولن الجهد والخدمة، هو الذي تغدو فيه رقابة الله للفعل الذي نؤديه، وللعمل الذي ننجزه، هي ما يحكمنا ويحدونا في مهامنا قبل أي رقابة أخرى تتابعنا أو تفتّش وراءنا.

حقا إن كُولن يرى أن الانخراط القلبي في تنفيذ المهام يجعل الفرد يعيش الإنجازات مخطوف الأعماق، إذ إن التمرّس بالإخلاص والتفاني في حسم ما نواجه من مأموريات الدعوة، وما يسند إلينا من واجبات، أو ما نرسمه من أهداف، يكسبنا تلك الخاصية الروحية التي نغدو بها على حالة من التجنيح العميق كلما باشرنا العمل وبادرنا إلى البذل. إنها نفسية المحارب الباسل حين يدخل المعركة، إذ يحياها بمواجد لا يعود يعي في خضمها شيئا من الوجود، إلا تحقيق النصر أو الظفر بالشهادة.

وإن من مقتضيات التثبت والتبصر في العمل الدعوي مراعاة الظروف الملابسة لأوضاع الخدمة، فمثلما تراعي الخدمةُ شروط الأداء داخل الوطن، تراعيها حين تنبري لها خارج الوطن. وإن العولمة التي تحمل لافتة الانفتاح على الآخر، لا ينبغي أن توهمنا بهذا الشعار، إذ التضييق على العمل الخيري والنشاط الروحي لا يجد القبول والترحيب من قبل دوائر الاحتكار العالمي التي يهمها أن ترى العالم متحللا من كل وازع أخلاقي وروحي، إذ طبيعة رهاناتها أن توجد الإنسان المستهلك الذي يعتقد أن الحياة هي تَبَضُّعٌ وتهافت على اقتناء ما تلقي به القوى الصناعية والتجارية إلى السوق.

فمن الطبيعي أن لا نتوقع من الثقافة المعولمة التوسعية بما ملكت من هيمنة إعلام وتشريع وتوجيه، أن ترحب بأي دعوة أو روحية تضع في مقدمة أهدافها ترشيد الإنسان وتوعيته روحيًّا وقيميا، والدفع به على طريق كبح جماح الأهواء في نفسه، وتدريبه على الفطنة في الحكم على الأشياء، والقدرة على اتقاء البواعث الاصطناعية والأيديولوجية التي تعمل على تعميق قابلية التسفل والبهيمية فيه من خلال شحذ روح التحلل واستشراء أدواء الاستزادة في الماديات والاستهلاكيات في نفسيته.

إن ثقافة التهييج المادي الماكر الذي تتبعه الرأسمالية الاحتكارية اليوم، بما يصبغ روحيتها الماركوتنغية من توجه إغرائي مطلق العنان، لهي النهج الذي تتبعه القوى الابتزازية العالمية في تدجين الشعوب. فقد استعاضت عن الاحتلال المباشر للأمم باحتلال آخر ناعم، هو أخطر ما يكون من حيث القدرة على ثني العنق، وتجريد الأمم والشعوب من مناعتها التي ظلت تنافح بها ضد استهدافاته لشخصيتها ومقومات تماسكها ومنظومات قيمها.

وإن دور الإعلام المعولم، المتخطي لكل الحدود، والمستهتر بكل القدسيات، إلا قدسية المال الْمَرْبِية مصادره، وطرق كسبه وإنفاقه، ليتصدر الخطوط في ترويض البشرية على الطاعة والانسياق الأعمى للرذيلة والتسفل، وإن أخطر ما انتهى إليه فعل التدجين الإعلامي للإنسان المعاصر أن بات يستعبد المجتمعات، ويخضعها لتأثيراته الإفسادية، بل لقد بات الإعلام[7] ظاهرة عولمية إدمانية أخرى، لا يقدر الإنسان المعاصر عن الانفكاك عن سلطانها الفتاك، إذ أذعن لها، فبات ينام ويستيقظ على البرامج المفتتة للقيم، بدءا من أشرطة الكارتون، وهو ما انتزع الحكمة منه، بحيث تطبعت روحه على ملابسة السخافات، والتدنّي الفكري، والشعوري. إن الثقافة السمعية البصرية التي نَمّطها الغرب على قوالب تخرب الروح، قد أفقدت الإنسان المعاصر غيرته على الشرف، وجعلته يتقبل وضع التراجع والامتهان الذي قلص المسافة كثيرا بين الكائن البشري والحيوان، لاسيما من حيث تحكم الغريزة، وتيقظ حس الافتراس والتبذل.

إن ولع الإنسان اليوم بتجديد جهاز النقّال مثلا، وشغفه بتشغيله طوال اليوم، لهو وجه من هذه الكلبية البافْلوفيّة التي جرّتنا إليها ثقافة التسوق.

إن قوة الإنسان تتبدد على هذا النحو الانسياقي دون أن يعي ذلك. إن روحانية الإسلام كفلت لنا الإخلاد إلى السكينة في حلقة الذكر، وإلى التأمل في حضرة الترتيل القرآني، وإلى التجنيح عند التحول من سكينة الصلاة (بوجهَيها الجهْري والسري) إلى سكينة الذكر وتأدية المعقبات، فضلا عن التنفيل آناء الليل وأطراف النهار، فساقنا ذلك كله إلى وضع من الاستجمام المفيد الذي يتخلل يومنا، ويورثنا الصلابة الروحية والمعنوية، ويحفظ لنا مخزوننا من القوة والحيوية، عكس ما تفعله بنا هذه الثقافة الاتصالية التي تستنـزفنا على هذا النحو الدرامي الخطير.

إن فضيلة الصمت والقصد في الكلام التي ظلت ممدَّحة إلى عهد قريب في ثقافات العالم، قد عصفت بها ثقافة الاتصال، بحيث أحالت الإنسان إلى كائن ثرثار، لا قدرة له على التركيز، لأن استرساله في المكالمات، والمواجهات الشبحية، يستهلك حتما ما له من احتياط ذهني ومرصود عقلي ووجداني كان في الوسع أن يتيح له تنفيذ شيء نافع، ودائم.. إن الاستغراق في مواقف التواصل قد شغل الإنسان وحرمه من أن يجد بهجة الامتلاء.

إن التكفف الذي يراه كُولن سمةً واجبة ولازمة في الإنسان باني الحضارة المنشودة، يشمل مجال القول أيضا؛ فليس الإشباع الجسدي وحده مخلا بالفاعلية لدى الإنسان، إنما القول حين يغدو لغوًا، ويضحي هَدْرة، وتقصير أوقات، وتفقيرا فكريًّا وقيميا، هو أيضا إشباع إسفافي مقيت، لأنه يتدنى بقابليات الكمال وبالحس السوي، بل وبالمروءة. إنه انسياق من جنس انسياقات نزوية كثيرة وفاسدة ربَّتْها فينا المدَنيةُ المادية المعاصرة، المستهدفة للمثل السامية والروحية التي ظل الإنسان يبجّلها عبر الدهور.

ولا غرابة أن يرشدنا القرآن إلى فضيلة الصوم عن القول التي كان المصطفون، ومنهم مريم وزكرياء وآخرون، يعتصمون بها، في تواصلهم مع الله. وإن الاعتكاف في الإسلام قاعدته الكف عن الكلام، إلا ما كان من ذكر أو تلاوة أو ترتيل أوراد. بهذا التحنف يهيّئ الإنسان نفسه للتحولات التي تغير مجرى التاريخ.

إن هدف القوى الرأسمالية الاحتكارية هو جعل الكرة الأرضية سوقا، والشعوب طوابير من المستهلكين المتهافتين على السلعة، أيًّا كانت طبيعتها. ولذا هي ترى في الدين -لاسيما الإسلام- أخطر فاعل يواجه مخططاتها الماركوتنغية، إذ روحانية الدين ترتفع بالإنسان نحو القصد والتوازن والسمو النفسي، وتحدوه إلى عدم الانجرار وراء تهييجات أساليب العرض..

فإنسان مدنية اليوم -شأنه مع كل مدنية مادية جامحة- تتّجه به ترويضات بيداغوجية التسليع، نحو أفق يفقد معه نوازع إنسانيته، لأن التركيز التعقيمي يقع على جوانب الروح فيه، ولأن دوائر تحطيم مكامن العظمة في الإنسان تدرك أن إماتة الروح هي الضامن لرهان (وَحْشَنَةِ) الإنسانِ، وإطلاق عقال غرائزه، وجعله كائنا تتحكم فيه مُهلكات المدنية المعاصرة (الجنس والوخز والذهانيات الثقافية الأخرى..)، حتى الرياضة فلتت من إطارها الإنساني النبيل، وباتت أفقا ماركوتنغيا يتلقن منه ساكنة الأرض قيم العنف والغش والغلظة الوحشية، لاسيما وأن رمزيات الجمال التي تميز عالم التنافس الرياضي، باتت هي ذاتها تنعكس بالسوء على الأخلاق، وتُطبِّع أهلَ البسيطة على قيم الجموح والبهيمية، لاسيما وقد أفلحت ثقافة التهجين المعولمة في استقطاب الأنثى إلى الحلبة، شاهدا على تسفل الجبلة وتدهور المثل، وفاعلا يتمرس على ألوان من الشطط والتبذل تنافي طبيعة الجنس الأمومي.

فلذا يرتفع اليوم صوت العقل يدعو إلى ضبط حراك التطور المادي بقواعد الفطرة والاتزان، والعمل على وضع حد لهذا الانفلات من ربقة الدين.. انفلات ربط الإنسان بالمادة، وجعله مخلوقا مشروطا بنوازع التهتك الجسدي.. من هنا لا يفتأ كُولن يلحّ على وجوب أن تتمرس المجتمعات -مثل الأفراد- بضوابط التعفف والقصد والتريض على خلق التمالك الذي يعيد للروح حيويتها، وللعقل وضاءته، وللبصيرة وهجها، ليتأتى للإنسان المعاصر أن يتخطى شراك اللذة والسقوط في هوة التحلل التي لا قرار لها.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.