الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

إستراتيجية قرن العلم بالدين

من أُسس تجديد وعي الأمة تعميم الشعور بالمسؤولية بين كافة أعضاء المجتمع، وإشعارهم عن صدقٍ بأن رهان النهضة، وما يُقام من مشاريع الإقلاع، هو عين التكليف، وفرض العين على كل واحد وواحدة؛ إذ إن ما يجعل الوهن يصيب المشاريع، ويعطلها، ويتركها هملاً، هو عجز أصحابها عن المطاولة والاحتمال. وكل تحول نوعي تتبناه فئة أو قطاع أو حزب، ولا تفتحه في وجه الأمة كافة، بمختلف مستوياتها ومكوناتها، مآله إلى التحجم والتقزم والتراجع.

وإن تنافس القوى في بلاد الغرب يقوم على التنافس في إعلاء الوطن، وصونه، والسير به في طريق التقدم، عكس التصارع السياسي عندنا، المعتمد على نفوذ يستهدف ترسيخ الحكرة، والتسلط، وتأبيد عقلية المافيا.

إن النهضة غاية الأمة بكافة تعداداتها. والمؤكد أن العجز يفتك بالرهانات الكبرى بسهولة حين لا يكون لها الاحتياطات الكافية، ولا يتوفر لها شرط التضافر وتشابك الأيدي.

إن مهمة الطليعة المؤمنة، المتنورة، تفرض عليها حشد الكفاءات والطاقات والمناصرين من سائر الأوساط. وإن مسؤولية تأصيل الحراك، وتمتين قواعده، وجعله غاية الأمة جمعاء، هي مسؤولية النيرين، أهل السبق إلى التدشين النهضوي المنطلق.

"ولا شك أن إنجاز ما تمليه هذه المسؤولية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأبطال يصونون مصير الوطن، ويحمون تاريخ إنساننا ودينه وأعرافه، وتقاليده ومقدساته كلها.. أبطال طافحين بحب العلم، منشدين إلى الإعمار والإنشاء، متدينين أخلص من الخُلَّص، محبين للشعب، ومرابطين أبدًا على أداء واجباتهم بشعور المسؤولية، فبهؤلاء وبجهودهم ستهيمن أفكارنا، ومحصلة هذه المفاهيم والأفكار على حياة شعبنا"[40].

وإن أخطر ما يتهدد البرامج الجادة، ويتعقبها بالنسف والتعطيل، أن تظهر إلى الناس في صورة مقاصد فئوية لا تهم المجتمع، ولكنها تهم الداعين إليها. حينئذ يقف المجتمع والسواد الأعظم منه، موقف المتفرج، بل ستمتد منه الأيدي للاعتراض والإعاقة والتفليس، إما بدافع التنافس أو للمعارضة المبدئية، أو بإحساس من يريد أن يركب العربة ويقودها هو لا غيره، وفي كل ذلك ما فيه من عوامل الفشل والوهن والاستسلام.

ليست النهضة جدولاً من النتائج، يتفرغ بعدها العاملون إلى المتع وجني الثمار، كلا إن النهضة تحوُّل صميم، يشمل الأفراد والمجتمع عامة، سلوكًا وثقافةً وتطلعات، ويجعل من العمل الصالح مقوم حياة، ومبرر وجود، وشرط أخلاق واجتماع، لا كينونة بدونه، ولا شرف، ولا كرامة.

من هنا كان على الطليعة التي يُكتب لها أن تكون حاملة المشعل، بل والجذوة التي أشعلته، أن تتفانى في توسيع مساحات المشاركة؛ بحيث لا تفرّط في أي جهد تتمكن من استقطابه لتعزيز المسيرة.

والمؤكد أن أفضل أساليب الاستقطاب والتوسع في دوائر العمل، هو السلوك الفردي والجماعي الذي يظهر عليه الرواد. ففي أصالة العطاء، وسماحته، وفي سلوك نكران الذات، خير وسائل الشد والتأثير الذي يتمكن العاملون من خلالها أن يقووا من جانبهم، وأن يعززوا من صفوفهم.

إن خلق ثقافة التجميع والمشاركة والأداء المشترك، والعمل المتقاسم، هو أحد أبرز المقاصد التربوية التي يحرض عليها الأستاذ كولن. فكل المقومات التعبدية والتعاملية التي يقوم عليها الإسلام، تركز على المقصد التجميعي المنتج، وتحرض على المرمى الجماعي المثمر؛ ذلك لأن الإسلام قد أرسى الأسس التي تؤكد مبدأ الجماعة؛ لأنه دين المشاريع، وتجديد النهضات، والتأهيل البناء والإيجابي لخوض التحولات الكبرى؛ لأن سند الأمة المسلمة الأول والأخير في كل هذا وذاك، هو السند الإلهي الذي لا يمتنع عن قدرته شيء.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.