الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

مركزية الدين في الإصلاح

هكذا إذن تَتبدَّى لنا مركزية الدين، بوصفه أهم فاعليات التحريك الاجتماعي والإنساني، وأقوى ديناميات التحشيد الجماهيري، وأمكن عوامل نشر الأخلاق والتمدن؛ إذ الأفراد، وكذا الجماعات، تجد نفسها حيال تعليمات الدين سواسية، تتقاسم نفس التكاليف، وتتوقع نفس الجزاءات الغيبية، الأمر الذي يجعلها تقف على بُعد واحد من الخالق عز وجل، وتدرك أن الإلزامات المشتركة التي تنهض بها ليست من إملاءات أحد، فهي تعاليم متعالية عن الاجتهاد الإنساني، وأن المسار الذي تسلكه (الجماعات) ليس من رسم أحد، حتى نداءات الدعاة والمصلحين إنما هي في حقيقتها تذكير بما قررته العقيدة، وتنبيه إلى ما يفوت الناس من خير وبركة ببعدهم عن الشريعة.

وبتشغيل محرك الدين في النفوس، يتأتى تأصيل ثقافة اجتماعية يفرزها السلوك الاجتماعي المنضبط والمتطابق -بالقدر الأوفى- مع الشرع، وبذلك يتأتى للمجتمع أن يسترجع حيويته الوجدانية واتزانه المزاجي برجوعه إلى جو الدين، واستظلاله بمناخ اجتماعي يعيده إلى ثقافته الأصلية، بحيث يغدو مرأى الفساد يؤذيه، ومشهد التحلل والتهتك والإخلال بالقاعدة الشرعية والأخلاقية يسوؤه.

بل إن من شأن التأصيل الثقافي المطلوب، أن يكفل للمجتمع الوقاية الذاتية من المخاطر الهدامة والمعتقدات الغريبة، ويتم ذلك من خلال تدريب الروح الاجتماعي وتقوية حساسيتها وقدرتها على القيام برد الفعل المناسب، حيال كل اختراق أو اندساس يشوش على منظومة القيم، أو يحاول أن يَعْدِلَ بها عن مسارها وطبيعتها.[30]

فتنمية دينامية الممانعة الإيجابية في صيغ الثقافة الأصلية، يجعلها أقدر على التبادل والتحاور، وأكثر صلابة في مجال التمرسات السجالية.

ودائرة الاستصلاح التي تسفر عنها الجهود بعد عقود من الجهاد والبلاء الحميد الذي يتجشمه الأفذاذ المصلحون، لا تكون -غالبًا- إلا محدودة النطاق، لكنها على محدوديتها تمتلك تلك الجاذبية الأصيلة التي تستمدها الظواهر النورانية من قدسية المبادئ التي تتقمصها، وهو ما يجعل تلك الدائرة مهيأة للتوسع، يعطيها نبل شعاراتها وتسامي سلوكياتها رجاحة في التأثير، وقدرة على التوجيه؛ إذ تغدو الأوساط المستصلحة بمثابة المنائر التي تشدّ إليها الأنظار.

بالدين الحنيف نضمن للحضارة أن ترسو على روحية مطهرة، وبالثقافة المؤخْلقة على الخُلق، نسدد نحو بعث الوجدان المبرأ من لوثات التردي المادي والمعنوي.

فالثقافة حين تنبع من صلب العقيدة، تهيئ للمجتمع أن يتداوى من اعتلالاته المعنوية على نحو شبه ذاتي، فمن شأن المجتمع والأوساط المستنيرة أن تُهيئ المناخ الثقافي الذي يستوعب الانحرافات ويكيّف التشوهات.

إن الفرق بين التحصين المدني كما يدعو إليه كولن، وبين الإطلاقية التي تنادي بها الفلسفة الليبرالية، هو أن كولن يسير بالعملية الاجتماعية مسارًا بيداغوجيا، بمقتضاه يتوجب على المجتمع أن يكوّن الأسباب التي تجعل مظاهر الانحراف ومفرخات الأمراض تنحسر ذاتيًّا، وذلك حين تتوفق الجماعات إلى أن تجعل أوساط الانحراف -ربما تحت تأثير علاقة المحيط المقرب منها، ورد فعله السلبي تجاهها- تستشعر بنفسها فسادها، واعوجاج الطريق الذي تسير فيه، فتتراجع أو تعيش وهي على وعْي بما تتسبب فيه من أذى للمجتمع، ومِن تعدٍّ على معتقداته.[31]

ومن المؤكد أن الحياة لا تخلو من قذى، رغم تعمق مساعي الإصلاح، فالحياة المستصلَحة أشبه بالجسد السليم، يظل مع كمال عافيته يرشح بنفاياته ويفرز مستقذراته، وهي حال من طبيعة الحياة ذاتها، فالشر لا ينتفي من الحياة، لكنه لا ينبغي أن يكون القاعدة.

الليبرالية فتحت السبل في وجه مستقبل بشري متهمج، يغدو فيه الشذوذ هو القاعدة، والاستقامة هي الخرق، ومنعت الإنسان من أن يعرب عن مشاعره حيال التشوهات، بل وحتّمت عليه أن يباركها، وإلا صُنّف رجوعيا، وأصوليًّا[32]، وأركاييك.[33]

وإلى جانب المحرك الديني والمحرك الثقافي، يتوجب دمج عامل الوعي بالتاريخ في الفعل الإحيائي؛ إذ بمعرفة المجتمع لماضيه، وبوقوف الناشئة على المراحل والعهود التي سلختها الأمة من هذا الماضي، وما اتسمت به هذه العهود من قوة وضعف، والمكاسب التي ظفرت بها السلالة، وعلل الانتصار والانهزام في مسيرتها، ستتمكن من وضع اليد على سند توجيهي حاسم، يقيها العثرات.

بل إن كولن وهو ينوّه بما لمعرفة التاريخ من فوائد تجنيها الأجيال، لا يفتأ يمتد بالبصر إلى مراحل ما قبل الإسلام، مذكِّرًا بما كانت عليه السلالة التركية من بدائية وضآلة وانعدام شأن في مضمار التحضر والتمدن. فكولن يدرك أن قراءة التاريخ في كُليته، يعطي الأجيال الصورة بكامل أبعادها، فيتهيأ لها حينئذ أن تعرف مكاسبها التي لا تُحَدّ من جراء انتمائها إلى الإسلام.

لقد هيّأ الإسلام الأمة التركية أن تكون أستاذة الدنيا لقرون من الزمن، بعدما كانت قبائل ينحصر همها في تتبع المراعي والتنازع على الكلأ. وكان الإسلام قد فَعَلَ مثل ذلك بالعرب والبربر ومن إليهم؛ إذ أخرجهم من الخمول، وبوَّأهم منزلة الريادة في العالم، لقرون من الزمن.

فالتاريخ -بحسب كولن- هو من أهم محركات التفعيل الاجتماعي والثقافي والقيمي التي لا مناصَ من استثمارها على الوجه الأفضل؛ تأهيلاً للأمة كي تشقّ طريقها، وتُعدِّل من مسارها التغريبي البئيس.

إن صورة الهوية الجماعية تتجلى في ملامح الماضي، وتنعكس بكل ما تحمل من سيما الحسن أو الشوه في مرآة التاريخ. ثم إن الرابطة بين الدين الإسلامي وبين التاريخ رابطة تلازم وتناسب؛ إذ جلّ الأمم التي اندمجت في الإسلام وجدت نفسها تزهد في ماضيها ما قبل الإسلام؛ لأنها لم تتأهل لكتابة التاريخ بالحرف المذهّب إلا حين انخرطت في فيالق الإسلام. حتى الأمم ذات العراقة ترى مطاعن السذاجة والاعتقاد الفاسد والشذوذ المخزي تتلبس ما كان لها من مدنية قبل أن تشرق عليها شمس الإسلام.

من هنا كان درس التاريخ في صدارة المعارف التي ينبغي أن تتلقنها الأجيال؛ إذ إن أضاليل التغريبيين تعول في التسويغ لمنهج الانحراف الذي تسلكه، على طمس التاريخ، ومصادرة الذاكرة الجماعية، وتشويه الحقائق، والعمل بلا هوادة على قطع الشعب عن جذوره، وجعله يعيش يتيمًا من غير ماضٍ، كل ذلك من أجل أن يسهل عليهم ربطه -ذيلاً- بجسد مدنية وحضارة الآخر.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.